فقه القرآن (لليزدي) جلد 2

اشارة

نام كتاب: فقه القرآن

موضوع: آيات الأحكام

نويسنده: يزدي، محمد

تاريخ وفات مؤلف: ه ق

زبان: عربي

قطع: وزيري

تعداد جلد: 4

ناشر: مؤسسه اسماعيليان

تاريخ نشر: 1415 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

محتويات الجزء الثاني

كتاب الولاية و الحكومة 215

ولاية اللّه و رسوله 217

ولاية أولي الأمر 222

ولاية الفقيه 224

الولاية علي اليتيم و السفيه 226

الولاية علي العبد المملوك 227

خلاصة البحث في الولاية و الحكومة 229

كتاب الجهاد في سبيل اللّه 231

وجوب الجهاد 233

استثناء في الجهاد 239

السقاية و العمارة أم الجهاد؟ 241

الأمر بالقتال 242

النفير للجهاد 243

الفرق بين المتربّصين 244

التشديد في الجهاد 245

التقوي و الوسيلة في الجهاد 246

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 212

ما يشير الي وجوب الجهاد 246

تفضيل المجاهدين 250

كيفيّة القتال 254

الصبر و المثابرة 255

بأس الحديد 257

الترابط في القتال 258

العنف في القتال مع التقوي 258

كيفية الحرب و الأسر 259

حرمة الفرار من الحرب 260

الثبات و عدم التنازع 261

الإجابة الي السلم الحق 262

الفحص قبل ردّ السلم 263

شرعية معاهدة الكفار 264

الاستجارة 266

الجهاد كما يريده اللّه 267

ظروف القتال 269

الأمر بالقتال عند نقض العهد 271

الدفاع 272

الهجرة 276

امتحان المهاجرين و المهاجرات 282

خلاصة البحث 283

كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر 289

الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة 294

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 213

خلاصة البحث 298

كتاب الحدود 299

معني الحدّ 301

حدّ قتل المؤمن خطأ 302

حدّ من حارب اللّه و رسوله 303

كفائية الحدود 305

حدّ السارق 306

حدّ الزنا 308

حدّ السحق 310

حدّ اللواط 311

حدّ الرمي 312

خلاصة البحث 315

كتاب القصاص 317

كيفية القصاص 319

المقابلة بالقتل أو العفو 322

الكيفية و الزمان في القصاص 323

القتل بلا قصاص 324

خلاصة البحث 325

كتاب القضاء و الشهادة 327

المقدمة 329

الحكم بالعدل 330

من هو الحاكم؟ 334

الشهادات 340

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 214

الشهادة في التجارة و الامانة 341

الشهادة في الطلاق 342

الشهادة لإقامة العدل 344

أهمية الشهادة 346

الشهادة عند ردّ الأموال 347

الشهادة عند

الوصية 348

مراجعة الظالمين لاستنقاذ الحق 349

حرمة الرشوة 351

الدعوة الي الصلح 352

خاتمة المطاف 356

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 215

كتاب الولاية و الحكومة

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 217

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام علي محمّد و آله أجمعين

ولاية اللّه و رسوله

الولاية بالمعني المبحوث عنه هنا هي أصل شجرة الولاية العامة التي تكون ركنا لأساس الحكومة علي الأمة، اي الأحقيّة للتصرّف في شئون الغير علي أساس المصالح العامة، كالتصرّف في أموال الغيّب و القصّر و الأوقاف و الأموال العامة كالأنفال- كما عرفت- و كذا التصدي للقضاء و فصل الخصومات و حفظ النظم الاسلامية في شتي الشئون التي تتعلّق بشئون المعابد و المدارس و الكليات و كذا المستشفيات و ما يرتبط بها، و حتي التصرّف في شئون الطرق و الشوارع، و مطلق العلاقات الإذاعية و الهاتفية و البريدية و البرقية و غيرها من الأمور الداخلية، و كذا التصدي للجهاد و الدفاع و المصالحة و المعاهدات و القرارات التجارية و الصناعية و الثقافية و المبادلات مع الكفار و غيرهم من أهل الكتاب، و غير ذلك من الأمور الداخلية و الخارجية لبلاد الاسلام صانها الله تعالي عن الحدثان.

و لا اشكال في ضرورة وجودها في كل مجتمع كالمحاكم القضائية و الأمر كذلك في الاسلام مع مزايا خاصة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 218

و في الكتاب آيات:

الأولي- قوله تعالي: النَّبِيُّ أَوْليٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ … (الأحزاب [33] 6)

من المعلوم ان الأصل الأوّلي في الولاية هو ان لا ولاية لأحد علي أحد و أنّ الناس مسلّطون علي أموالهم و أنفسهم، الّا ما أثبته الدليل مثل الضرورة العقلائية علي لزومها في الجملة، و المتيقّن أن الحاكم الأحق بالولاية و الوليّ الأوّلي في مختلف شئون الاسلام و خير الأمة هو الله تعالي بأحكامه و قوانينه في حلاله و حرامه، و كما هو كذلك في

مختلف الموجودات و المخلوقات بملائكته و جنوده:

ألا له الخلق و الأمر، و هو القاهر فوق عباده، و هو وليّ المؤمنين، الذي يخرجهم من الظلمات الي النور، فلا يتقدّم عليه شي ء، و هو النافذ الساري حكمه و أمره، لا في التكوين فحسب، بل في التشريع أيضا. قال تعالي في مقام بيان الولايتين: … فَاللّٰهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتيٰ وَ هُوَ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ* وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَي اللّٰهِ ذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (الشوري [42] الآية 9 و 10)، و يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ … (الحجرات [49] الآية 1).

ثم علي امتداد ولايته تعالي و حكومته يكون الأمر علي يد نبيه و رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فان الآية- كما تري- تحكم بلسان الإخبار عن حقيقة تشريعية جعلها الله تعالي لوليّه و نبيّه خاتم الأنبياء (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأحقيّته علي المؤمنين من أنفسهم بهم، فله أن يتصرّف فيهم علي أساس مصالحهم و خيراتهم بل في تمام شئونهم التي ترتبط بهم في اي وجه من الوجوه في نفوسهم و أموالهم و أعراضهم، فعليهم أن يطيعوه فيما أمرهم به في مختلف شئونهم، و مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ «1»، وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ، و كذا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ «2».

______________________________

(1)- النساء [4] الآية 80.

(2)- و قد أمر باطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في الكتاب الكريم في أكثر من عشرة مواضع:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 219

و ذلك غير ولايته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي أعلي الأنحاء،

و فوق كل ولاية تكوينا، دون ولاية الله تعالي من كونه بحقيقته مجري كلّ خير، و مسير كل بركة تتنزّل من البارئ العظيم علي كل موجود بصورة الوجود، و قد قال (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «كنت نبيّا و آدم بين الماء و الطين» «1»، و قال الامام الصادق (عليه السّلام) حينما سئل: هل كان رسول اللّه سيد ولد آدم؟ فقال (عليه السّلام): «كان و الله سيد من خلق الله. و ما برأ الله برية خيرا من محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) فهو رحمة للعالمين» «2»، و قال ابو جعفر (عليه السّلام): «يا جابر انّ الله أول ما خلق خلق محمدا (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و عترته الهداة المهتدين» الحديث «3».

ثم لا يتوّهم أن اشتراك ولايته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الشرعيّة علي المؤمنين مع ولايتهم علي أنفسهم و أموالهم مع توافق تصرّفهما أو التخالف من تأثير عاملين في معمول واحد، أو تقديم أحدهما فيسقط الآخر، و الشركة راجعة الي حذف كلّ منهما بالنسبة، فان تلك المحاذير تلزم أنهما اذا كانتا في عرض واحد، و اما في الطول فلا، فان المؤمن مع ولايته واقع تحت ولاية الرسول كولايته تعالي علي النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)

______________________________

1- … وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأنفال [8] الآية 1).

2- يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لٰا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (الأنفال [8] الآية 20).

3- … وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لٰا تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ (الأنفال [8] الآية 46).

4- فَأَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ

وَ رَسُولَهُ وَ اللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (المجادلة [58] الآية 13).

5- وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (آل عمران [3] الآية 132).

6- قُلْ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْكٰافِرِينَ (آل عمران [3] الآية 32).

7- يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء [4] 59)

8- وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (النور [24] الآية 56).

9- قُلْ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا عَلَيْهِ مٰا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مٰا حُمِّلْتُمْ … (النور [24] الآية 54).

10- أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ (المائدة [5] الآية 92) و (التغابن [64] الآية 12).

و بتعابير اخري غير الأمر في آيات كثيرة لا تخفي علي المتتبع.

(1)- البحار: ج 18 ص 278.

(2)- البحار: ج 16 ص 368 رواية 76.

(3)- الكافي: ج 1 ص 440 و 442/ باب مولد النبي (صلّي اللّه عليه و آله) فان الأول في الخلقة هو الأشرف الأفضل من الجميع قطعا لامتناع الأخس مع امكان الأشرف فينطبق حقيقته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) علي الفيض المنبسط علي الجميع و هو مسير كل الخيرات و البركات و ليست الولاية التكوينية الّا هذا، كما ذكرناه في محله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 220

و من تحت ولايته من المؤمنين، و لا تزاحم في الطوليّات.

و كيف كان، فلا اشكال في دلالة الآية علي ولاية النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أحقيته منهم في جميع شئونهم، فهو وليّهم و الحاكم عليهم، يأمرهم و ينهاهم بما يشاء و بما يراه مصلحة في مقام الاجراء و العمل زائدا علي بيان أوامر الله تعالي و نواهيه

التي يبلّغها إليهم، و ما علي الرسول إلا البلاغ المبين.

الثانية- قوله تعالي: وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً.

(الأحزاب [33] الآية 36)

تؤكد الآية الكريمة ولاية الله تعالي و رسوله الكريم اي أحقية أحكام الله تعالي و حدوده بأن تتبع في كل نظر و حكم ثم أحقية رأي النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في كل رأي و نظر، و تقريب التأكيد لو لا الاثبات بنفي حق و اختيار عن غيرهما، و انه مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ فيرده أو بعضه أو بعض جهاته و كيفياته، بل عليهم أن يطيعوا الله و رسوله في كل ما قضياه و أمرا به: وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً فاذا لم يكن لغير الله و رسوله خيار و نظر في أمر من الأمور إلا ما ساعد خيارهما أو لم يخالفه، و كان العصيان لهما ضلالا بيّنا بعيدا فلا ولاية إلا لهما «1».

______________________________

(1)- و كأن الآية الكريمة تنظر الي سرّ مسألة الولاية و ضرورتها في كل مجتمع، من أن الانسان حيث خلقه الله تعالي حرّا و جعله مختارا يفعل ما يشاء، فليس لأحد أن يبدل خلقه و يجعله في غير طريق فطرته بأن يحدده و يمنعه عن شي ء أو يأمره بشي ء، و ذلك الاختيار و تلك الحرية من أحق حقوق الانسان و أثبتها في الطبع.

و لكن حيث ان الانسان مدني اجتماعي لا يمكنه ان يعيش منفردا متخليا عن الناس فيكون مؤثرا

فيهم و متأثرا بهم و حق الاختيار و الحرية طبيعي له بحسب الحقوق ما لم يضرّ بالآخرين و هو فعّال لما يشاء ما لم يضيع حق المجتمع. و عندئذ يتصادم الحقّان: حق الفرد و حق المجتمع، و كلاهما طبيعي لهما، و بعد الارشاد و النصيحة و تحقق ما علي الرسالة من الابلاغ اذا لم يقبل الفرد و أراد الحرية و الاختيار الي حدّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 221

ثم ان بعد ولاية الله و رسوله لا أولوية و لا أحقية لأحد علي أحد علي الأصل إلا لمن جعل له ذلك بيد الله تعالي و رسوله و ليس لغيرهما جعل ذلك فان الناس مسلّطون علي أموالهم و أنفسهم و لا يجوز التصرّف فيها بغير اذنهم و رضاهم، فكما لا ولاية لأحد علي أحد في النفس و المال، لا ولاية لأحد في جعل وليّ عليهم بطريق أولي؛ و لذلك لا يصح جعل الولاية من قبل أناس علي أناس، إلا علي فرض التوافق الكامل من الجميع بحيث لا يشذّ عنهم أحد «1»، و لو فرض ذلك يصح ما لم يزد عليهم أحد فاذا أضيف إليهم تنتقض ولايته بالنسبة إليه، فان المجعول لهم لا وجه لمجعوليته علي من تجدّد بينهم فلا تتمّ ولاية بحق في مجتمع في يوم إلا ولاية الله و رسوله، و اما حكومة الأكثرية علي الكل و أحقيتهم في جعل الولي، بل في تعيين حكم أو تقنين قانون ممّا توسّل به أمم العالم علي الضرورة مما لا وقع له في الحقوق الحقة، فانه قد يلزم من ذلك محكوميّة ملايين من بني الانسان بشهوة واحد منهم، حتي لمن لا يرون مصلحتهم، لكونه الموجب لتحقق الأكثر بمعني النصف باضافة

الواحد، و أنت تري شناعة ذلك، و لا سيما فيما يطلبه الشباب حتي من القبائح التي لا يرتضيها العقل و لا الشرع، و مع الأسف انّه يستند إليه المدّعون للمدنية «2» و يستغلّونه في المجالس التشريعية العصرية، و ليس هنا محل للبحث

______________________________

الاضرار بحق الآخرين مع قبول ضرره الفردي و تحمّله، و لكل منهما ردّ الآخر حفظا لحقه، و حيث ان المجتمع مع أهميّة حقه لا يقدر علي ذلك بدخالة جميع الأفراد، بل لا يعقل ذلك لعدم علمهم بذلك في جميع الموارد و عدم الامكان عقلائيا بعدم العلم، فلا بد من حاكم يحفظ حق المجتمع من قبله و يمنعه عن تصرفه ذاك.

و ذلك مقام الامامة و الولاية، و لا بد منه ان يكون الي جنب الرسالة، بحيث لا يتمّ الثاني بدون الأول، فان الإبلاغ و بيان الاحكام من حلال و حرام فقط لا يغني من حفظ حق المجتمع من شي ء.

و مما ذكرنا تعرف ان الولاية تشمل كل حقوق المجتمع و تقتضي حفظها و مراقبتها في شتي الشئون الحياتية و الاقتصادية و الثقافية و العسكرية و غيرها كما أثبتناه في محله.

(1)- و لا تحقق للفرض أصلا و لو فرض فصحته لوجود المعصوم (عليه السّلام) فيهم فإن الأرض لا تخلو من حجة، و هو (عليه السّلام) وليّ من قبل الله تعالي، لا من قبل الناس كما فصّل في محله.

(2)- كما تعلم ذلك عن بعض بلاد أوروبة في إشاعة اللواط.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 222

عنه.

أضف الي ذلك كلّه أن الملاك في الولاية هو حفظ المصالح العامة للمجتمع الاسلامي كما عرفت، و كيف يعرف انسان مصالح انسان آخر علي الاطلاق و من جميع الجهات، و هو لا يملك خبرة كافية،

فان الانسان مرتبط بالعالم و مؤثر فيه و متأثر به، فلا يعلم مصالحه إلا بعد العلم بمجموع الخلقة و جموع الخلق، و لا يمكن ذلك لغير الله تعالي و لا لغير رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لا لغير أولي الأمر الأئمة المعصومين (عليهم السّلام) كذلك، و قد أشبعنا الكلام عن هذا الموضوع في محله.

و كيف كان، فلا ولاية بحق لغير الله و رسوله إلا لمن جعل له ذلك من قبلهما و هم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم بايجابها كما ستعرف.

ولاية أولي الأمر

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. (النساء [4] 59)

تفيد الآية الكريمة بوحدة السياق و صراحة الأمر وجوب اطاعة أولي الأمر علي نحو اطاعة الله و رسوله، و من تجب طاعته مطلقا فيما نبّأ به عن الله تعالي و بلّغ، أو ما رأي بنفسه مصلحة و رأيا في مقام التنفيذ و العمل فأمر به بحيث يكون رأيه و نظره مقدما علي كل رأي و نظر، وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ؛ فهو وليّ و حاكم نحو ولاية الله و رسوله و حكومتهما.

و حيث ان الله تعالي لا يأمر بالطاعة المطلقة لمن يمكن أن يخطئ في رأيه و نظره فيضرّ و يفسد الأمر، لا بدّ و أن يكون الرسول و أولو الأمر هم المعصومين الذين تجب طاعتهم مطلقا، لا من باب الضرورة؛ لدوران الأمر بين أقل الضررين كما في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2،

ص: 223

التبعية عن أكثرية أهل الفن في فنّهم، مع وجود النظر كالأطباء الاخصائيين في مسألة خاصة.

و من ذلك يعلم ان مفهوم «أولي الأمر» لا ينطبق علي كل حاكم و وليّ و ان كان جائرا، كما توهّم، فان الحكيم العادل الله تعالي لا يأمر باطاعة الفاسق الجائر قطعا، بل يأمر بالكفر به، فانه يأمر بالعدل و الاحسان أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَي الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً. (النساء [4] 60)

ثم ان الرسول الذي لا ينطق عن الهوي عرّف- و الحمد للّه- اولي الأمر بأسمائهم و مشخصاتهم و هم الائمة المعصومون الاثنا عشر (عليهم الصلاة و السلام) كما في رواية جابر و غيره «1»، جعلنا الله تعالي من مواليهم و شيعتهم و خدمة شريعتهم، إن شاء الله، و تمام الكلام في رسالتنا المسمّاة ب «بحث حول الامامة».

ثم انك تعلم ان الامام المعصوم الثاني عشر (عجّل الله تعالي فرجه الشريف) جعل نوّابا و ولاة عامّين بعد نوّابه الخاصّين و جعل لهم علائم و مشخصات، فهم الولاة و الحكّام الذين تجب طاعتهم في زمن الغيبة في كل ما يجب اطاعته (عليه السّلام)، و الرادّ عليهم كالرادّ عليه و الرادّ عليه كالرادّ علي الله، و قد صرّح بذلك- النصب و التعيين- سائر الأئمة (عليه السّلام) أيضا و لا سيما الامام الأعظم أبا عبد الله جعفر بن

______________________________

(1)- عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت جابر بن عبد الله الانصاري يقول: لمّا أنزل الله (عز و جلّ) علي نبيه محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): يٰا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قلت: يا رسول الله عرفنا الله و رسوله فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين من بعدي أولهم عليّ بن أبي طالب ثم الحسن و الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر و ستدركه يا جابر فاذا لقيته فاقرأه مني السلام ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسي بن جعفر ثم علي بن موسي ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميّي و كنيّي حجة الله في أرضه و بقيته في عباده ابن الحسن بن علي. الحديث. اكمال الدين/ ص 253، و غاية المرام في آخر الآية، و الكافي/ ج 1 ص 527، حديث 3 بوجه آخر و عن كاشف الغطاء في مقدمة كتابه (روايات العامة) كما في غاية المرام، و غيرها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 224

محمد الصادق (عليه السّلام) و قد فصّلنا البحث في رسالتنا «ولاية الفقيه».

و الأمر كذلك في الجعل و التعيين حسب المراتب، فالمجعول من قبل أحد النواب مجعول و معيّن من قبلهم يجب اطاعته علي شعاع الجعل و التعيين.

ولاية الفقيه

و عليه فالولاة و الحكّام الحقيقيون في زمن الغيبة هم الفقهاء و العلماء الذين عرّفهم الأئمة (عليهم السّلام) و هم أمناء الله علي حلاله و حرامه ما لم يدخلوا في الدنيا «1» و نوّابهم المأذونون من قبلهم، و لا ولاية لغيرهم في شي ء مما يرتبط بالأمة الاسلامية، و المتصرّف في شئونهم بدون اذنهم غاصب ظالم تحرم طاعته و معاونته و تأييده بأي

وجه حتي بالارجاع، و في مواقع بالسكوت. أعاذنا الله من شرور أنفسنا.

و جدير بالذكر أن عبد الله و هو (الخضر) الذي آتاه الله رحمة من عنده و علّمه من لدنه علما، قد تصرّف في السفينة فخرقها، و الغلام فقتله، و الجدار فأقامه، لم يكن من عنده بل بأمر من الله تعالي بولايته علي ما قصّ الله تعالي في كتابه العزيز قصة مصاحبة كليمه موسي معه (علي نبينا و آله و عليهما السلام) «2»، فان التحفظ علي مصالح الامة الاسلامية و لا سيما في مثل ذلك المستوي الرفيع، الذي لم يكن حتي لأوليائه المأمورين بظواهر الأمور، إلا لولايته الشاملة التي أعطاها الله تعالي اياه فكان له ان يتصرّف في أموال الناس و أنفسهم بمثل ذلك و لم ينحصر بما ذكر.

و من المعلوم انه لا يجوز التصرّف مثل تلك التصرّفات لكل أحد حتي مع العلم بالمصلحة، و انما حسب ظواهر الأمور، ما لم تكن له الولاية العامة الالهية و العلم بالمصلحة علي وجه لا يحتمل الخطأ دون القطع المحتمل، و لا سيما في مثل

______________________________

(1)- قيل و ما دخلهم في الدنيا؟ قال (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) اتّباع السلطان، كما في الحديث: الكافي/ ج 1 ص 46.

(2)- و ذلك في سورة الكهف [18] من الآية 65 الي 82.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 225

القتل، فلا يتم الاستدلال بالقصة علي جواز كل تصرّف كان أولي من تركه، مثل اجارة دار الغائب، و بيع أثاثه المشرفة علي التلف … و غيرها، أو جواز قتل شخص لدفع مفسدة، كما أشار إليه صاحب الزبدة (رضوان الله تعالي عليه) في كتاب «المكاسب» و لا سيما ما نقله عن المجمع (رضوان الله تعالي

عليه) من الجواز لكل أحد من تأمله، ففيه تأمّل، و للجواز في مثل تلك الامور أدلة أخري مذكورة في محالّها.

و اما الكلام في مراتب الولاية علي المستويات المختلفة بحيث تشمل بواطن الأمور و مجاريها العينية الخارجية، التي تكون وراء ظواهرها، التي يتصرّف فيها كل وليّ و حاكم، فهو خارج عن وضع الرسالة، أشرنا إليها في بحث الولاية التكوينية الثابتة لنبينا و الأئمة المعصومين (عليه و عليهم الصلاة و السلام) و هم مجاري رحمة الله و بركاته، و لهم التصرّف في كل شي ء باذنه و ارادته، و مع ذلك يعملون علي ظواهر الأمور و مجاريها العادية، إلا في موارد خاصة أشير إليها في سيرتهم (عليهم السّلام) و لها مقياس خاص.

و الحاصل ان التصرّف في مختلف شئون المجتمع علي تمام المستويات لا يجوز إلا للنبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الولي (عليه السّلام) أو نوّابهما، و هم العلماء الأعلام العارفون بأحكام الله تعالي و مواقعها و الناظرون فيها و في ظروفها. كثّر الله أمثالهم و أيّدهم بنصره، ليكونوا هم الولاة في المجتمع الاسلامي مبسوطي الأيدي، نافذي القول، حتي تكون كلمة الله هي العليا، و يكون الدين كلّه للّه «1».

______________________________

(1)- و من المعلوم ان اطلاق كلمة الفقيه يوجب أن تكون الولاية للفقيه المطلق دون المتجزّي، و بناء العقلاء علي تقدّم الأفضل، و لم يردع عنه الشارع، و لا يتصور التساوي في جميع الجهات، و التقوي و العدالة يحسمان الأمر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 226

الولاية علي اليتيم و السفيه

الرابعة- قول تعالي:

وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيهٰا وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً* وَ ابْتَلُوا الْيَتٰاميٰ حَتّٰي إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ

مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ وَ لٰا تَأْكُلُوهٰا إِسْرٰافاً وَ بِدٰاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كٰانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كٰانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذٰا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفيٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً. (النساء [4] الآية 5 و 6)

الآية الكريمة بصراحتها تنهي عن ايتاء المال الي السفيه الذي لا يعلم كيف يصرفه فيما يقوّمه، فان المال من نعم الله تعالي التي جعلها قياما للناس بمعاشهم، و شكر كل نعمة صرفها في محالها التي جعلها الله لها، دون اسراف و تبذير.

ثم تأمر بارزاق السفهاء و اكسائهم، و القول لهم بالمعروف، فلا يجوز اهمالهم بما أنهم سفهاء، كما لا يجوز اعطاؤهم المال ليصرفوه برأيهم و في مشتهياتهم، بأن كان المال لهم أو لم يكن، فانهم لا يقدرون علي القيام بمصالحهم علي النحو المتعارف، فلا بد من التولية عليهم و التصرّف في شئونهم، حفظا عليهم و علي مصالحهم، حتي لا يهملوا، فانهم عباد الله مخلوقون مرزوقون من عند الله، و ما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها.

و أما الوليّ المتصرّف في مصالحهم فمن هو؟ و إلي من يتوجه تكليف تحملهم؟ فلم يذكر في الآية- كما تري- شي ء صراحة.

و كذلك الأمر في اليتيم و ماله، فان الآية الكريمة تأمر بدفع أموال اليتامي إليهم بعد اختيارهم و ابتلائهم، و استيناس الرشد منهم، مع الإشهاد عليهم حين الدفع.

و تنهي عن التصرّف فيها قبله اسرافا و بدارا ان يكبروا في خصوص ما يأخذون أجر لولايتهم و تصدي أمورهم، أو في عموم ما يصرفونه لمصالحهم و ما يأخذونه أجرة،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 227

فعلي الفقير أن يأكل بالمعروف، و علي الغني أن يستعفف، وَ كَفيٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً. و لم يذكر

فيها انه من الوليّ و انه من هو أيضا.

إلا أن المتيقّن المقطوع من الآيات المباركات ان المحافظة علي الايتام حتي يبلغوا النكاح و استيناس الرشد، و كذلك السفهاء ما داموا كذلك، مما لا يرضي الشارع المقدّس بتركه بين مجتمع المسلمين، فان اهمالهم و اضاعة أموالهم التي كانت للقيام بمصالحهم باعطائها اياهم و هم غير قادرين عليه، أو بالاسراف فيها. أو البدار و الاسراع اللازم منه غالبا الخطأ الموجب للضرر، مبغوض للشارع المقدّس، منهيّ عنه، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ الْيَتٰاميٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. (النساء [4] الآية 10)

و كلما كان مطلوبا له تعالي و لم يتوجه التكليف الي شخص أو عنوان معيّن فهو واجب كفائي، موجّه الي الجميع، و يسقط عنهم بقيام البعض مع أحقية الأقرب فالأقرب، حتي ينتهي الي ولي من لا وليّ له، و هو ولي الأمر و حاكم المجتمع و الملّة.

و من ذلك يستفاد ولاية الأب و الجد، ثم العدول من المؤمنين، ثم الحاكم الشرعي، و لا يبعد أن يكون تعيّن العادل و تشخّصه من قبل الحاكم الشرعي أوفق بالقواعد، فلا يتصرّف كل عادل من قبل نفسه إلا لدي الضرورة، و عدم وجود حاكم من الطرق الطبيعية للمسألة كما في كل أمر حسبي.

الولاية علي العبد المملوك

الخامسة- قوله تعالي:

ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْنٰاهُ مِنّٰا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّٰهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ.

(النحل [16] الآية 75)

قد ضرب الله تعالي مثلا خلال الأمثلة بأن العبد الذي لا يقدر علي انجاز شي ء

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 228

هل يمكن أن يساوي الذي رزقه الله تعالي رزقا حسنا يتصرّف فيه كيف

يشاء و ينفق في سبيله سرّا و جهرا، و كما في رجلين أحدهما أبكم و هو الذي ولد أخرس، لٰا يَقْدِرُ عَليٰ شَيْ ءٍ، وَ هُوَ كَلٌّ عَليٰ مَوْلٰاهُ، و الآخر القادر الناطق الحاكم الذي يأمر بالعدل و هو علي صراط مستقيم، أو هل يمكن أن يستويان؟ لا.

فالعبد المملوك الذي لا يقدر علي انجاز شي ء، و لا أن يتصرّف بشي ء، ليس كمن رزقه الله تعالي ليجوز له التصرّف كيف يشاء شرعا لا تكوينا، بعد عدم الفرق بينه و بين مالكه و مولاه بحسب الأصول العادية الانسانية، فاذا لم يجز التصرّف شرعا فهو واقع تحت ولاية الغير، الذي يجوز له، و الأقرب إليه مالكه و مولاه، فالمالك وليّ عبده و مملوكه يتصرّف في شئونه، ما لم يمنعه الحاكم و الوليّ الفوق، أي النبي الأكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و الوليّ من قبله (عليه السّلام) أو الأئمة المعصومون (عليهم السّلام) و يد الله تعالي فوق أيديهم، فلا يجوز له قتله و ايذاؤه، أو أمره بما نهاه اللّه تعالي عنه، أو نهيه عمّا أمر الله تعالي به.

و من ذلك يعلم أن مالكية انسان لإنسان ليس كمالكيّته لغيره، يتصرّف فيه كيف يشاء، و البحث عن معني الرقّيّة الممضاة في الاسلام، و ان مستواه أنه أسهل الطرق و أمتنها؛ لتبديل الكافر بالمؤمن، و البعيد بالقريب، حتي ينتهي الي الحرية و قبولها بعد أن كان موضوعها أسري الحرب فقط دون استعباد الظالم القاهر المظلوم المستضعف، و له محل آخر «1»، و لا يبعد الفرق بين عدم القدرة في العبد معه في الأبكم بالتشريع و التكوين لعدم الثاني في الأول مع وجوده في الثاني تكوينا فيكون الأول للأول، و الثاني

للثاني.

______________________________

(1)- و في المقام بيان شامل شاف للعلّامة الطباطبائي (قدّس سرّه) في تفسيره «الميزان» و هو أمتن و أدق فيما رأيناه من الكلام و المقالات فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 229

خلاصة البحث

اشارة

ان الولاية غصن من شجرة الحكومة، و ركن من أركان الدولة الاسلامية، بمعني التصرّف في شئون الغير علي أساس مصالحه بمراتبها حتي تصدّي جميع مصالح الامة الاسلامية مما يتعلّق بالشئون الحقوقية، اي ما يتعلّق بشئون الغيّب و القصر و الأوقاف، و ما يتعلّق بالشئون العمرانية كايجاد و ترميم الطرق و الشوارع و المدارس و المعابد و المستشفيات و مطلق وسائل المواصلات الجماعية المسموعة و المرئية، و كذا ايجاد مؤسّسات الكهرباء و الهاتف و البرق و الفضاء و غير ذلك …

و الأهم من ذلك كلّه ايجاد مؤسّسات الثقافة و الصحة و الاقتصاد، و كذلك الأمر بالنسبة الي الأمور الخارجية الراجعة الي علاقات المسلمين مع غيرهم في شتي الشئون و مختلف الجوانب.

الفروع:

الأول- الوليّ و الحاكم هو الله تعالي و رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) يجب اطاعتهما في كل ما أمرا به أو نهيا عنه حكما أو شخصا أو موضوعا.

الثاني- المنصوبون من قبل الله تعالي و رسوله و هم أولو الأمر المعصومون (عليهم السّلام) حكّام أولياء تجب اطاعتهم كذلك.

الثالث- نوّاب الأئمة و وكلاؤهم (عليهم السّلام) و هم الفقهاء الجامعون للشروط (كثّر الله أمثالهم) هم الولاة و الحكّام علي المسلمين في زمن الغيبة تجب اطاعتهم كذلك.

الرابع- يجب علي العلماء العاملين و الفقهاء الجامعين للشروط (كثّر الله أمثالهم) في كل عصر و زمان مع اختلاف مراتبهم العلمية أو تساويهم حفظ بيضة الاسلام و مصالح المسلمين، و دفع خصومه و خصوم المسلمين، و تسديد ثغور

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 230

الاسلام و بلاد المسلمين و حدودها، مع تجويزهم تقليد الناس الأعلم أو غيره من العلماء المجتهدين، و الخيار في الفروع المختلفة فيها، فالحكم بتبعية المسلمين بأجمعهم لواحد منهم،

و هو الأعرف و الأدق و الأمتن بالنسبة الي المصالح العامة و الحوادث الواقعة التي تعني الولاية و الدولة؛ لئلا يقع التفرّق و الانشقاق في قوي المسلمين فيفشلوا و تذهب ريحهم و ينتهي الأمر الي ما انتهي، و حكم الفقيه لازم الاتباع حتي علي الفقيه الآخر دون فتواه «1». اللّهم انصر الاسلام و المسلمين، و اخذل الكفّار و المعاندين، و أيّد العلماء الربّانيين، الحماة للدين، و اجعلنا من خدمة شريعة سيّد المرسلين (صلوات الله عليه و علي آله)، و احفظنا من شرور أنفسنا و شرور الزمن إله الحق آمين يا ربّ العالمين.

الخامس- لا يجوز لغير المذكورين التصرّف في شئون المسلمين بوجه من الوجوه أصلا، و كل من تصرّف بغير اذنهم فهو غاصب ظالم تعدّي حدود الله، فلا يجوز إذن معاونته بأي وجه كان حتي بالسكوت فيما كان، و يجب الكفر به، فقد أمروا أن يكفروا به.

السادس- يجب علي الفقهاء- مهما أمكن- عند ما لم يكونوا مبسوطي اليد التصدي لرعاية الايتام و المحافظة علي الضعفاء و السفهاء و أموالهم، و كذا اقامة الحدود الشرعية مع التمكّن منها، و مع العذر علي العدول ذلك باجازتهم مهما أمكن، و فيما أمكن.

السابع- الأب و الجدّ وليّ للولد و ولد الولد، كما ان المولي و المالك وليّ العبد و مملوكه في طول ولاية الله و رسوله و أولي الأمر عليهم الصلاة و السلام «2».

______________________________

(1)- فان الأمر الولائي و نهيه غير بيان أوامر الله تعالي و نواهيه في الأحكام و بيان الموضوعات و الأول راجع الي الولاية و الثاني الي الفقاهة و الفقيه وليّ كما ان الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) إمام.

(2)- تم بحمد اللّه كتاب الولاية في

ليلة السابع عشر من شهر شوال عام 1394 ه. ق و الساعة تشير الي الحادية عشرة و عشر دقائق، و انا مبعد في «رودبار».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 231

كتاب الجهاد

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 233

[النوع الأول: الآيات التي تدل علي وجوب القتال]

وجوب الجهاد في سبيل اللّه

الجهاد هو السعي و الاجتهاد لنشر حقائق الاسلام و توسعة معارفه، و دعوة الناس الي الحق و التوحيد حتي بالقتال في منتهي الدعوة، و لئلا تكون فتنة و يكون الدين كلّه للّه، و يكون الحاكم علي الأرض هو الله تعالي و ولاته الحق المنصوبون من قبله.

و القتال هو بذل النفس في المعارك، و هو من أعلي مراتب الجهاد، و مع ذلك يعدّ جهادا أصغر، قبال السعي لتسخير النفس بتزكيتها عن كل رجس و باطل، و لحكومة الحق عليها. و هو الصعب المستصعب الوصول إليه، و المعبّر عنه بالجهاد الأكبر في لسان السنّة المباركة. و قد قال تعالي في كتابه العزيز: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا وَ قَدْ خٰابَ مَنْ دَسّٰاهٰا (الشمس [91] الآية 9 و 10) فانه لو لا ذلك لم يوفق للجهاد علي ما هو حقه.

هذا اذا كان السيف واقعا بين الكفر و الاسلام ينفذ دوره في تنفيذ و ابلاغ التوحيد في بلاد الشرك و الكفر، و تسلّطه عليهم سلطة الحق علي الباطل، حتي يقع خلق الناس في المجري الذي خلقوا له، و يدفع الله الباطل بالحق، فاذا هو ذاهب زاهق، قال تعالي: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَي الْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ. (الأنبياء [21] الآية 18)

و أما اذا كان بين أهل التوحيد؛ فجهاد المسلمين مع القاسطين و الناكثين و المارقين منهم من مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، التي تكون علي عهدة الحكومة الحقة و إشرافها، و اطلاق الجهاد عليه تسامح و ان كان جهدا في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 234

سبيل الله، و الواجب فيه الجهد (كذا في اللغة).

و السيف بين الكفر و

الاسلام غير الذي بين أهل التوحيد حسب الشرائط و الخصوصيات كما سيأتي موضوعه ان شاء الله تعالي في محله «1».

و كيف كان فالآيات النازلة في الباب بكثرتها علي أنواع:

النوع الأول:

ما يدل علي وجوب القتال و الجهاد مع الكفار في الاسلام في الجملة، و فيه آيات:

الأولي: قوله تعالي:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتٰالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسيٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسيٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ. (البقرة [2] الآية 216)

دلالة الآية الكريمة علي أن القتال في الجملة مكتوب مفروض علي المسلمين ظاهر لا ريب فيها، و هو ثقيل و مكروه علي النفس بالطبع، و يخفّ عليها اذا صارت مطمئنة الي الله تعالي، و عسي أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم، و الله يعلم و أنتم لا تعلمون ما فيه من الخير و الصلاح.

الثانية: قوله تعالي:

وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰي لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّٰهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلٰا عُدْوٰانَ إِلّٰا عَلَي الظّٰالِمِينَ. (البقرة [2] الآية 193)

الآية الكريمة تأمر المسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم «2»، و مفادها الابتدائي

______________________________

(1)- في الكلام في قوله تعالي: فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ (الحجرات [49] الآية 9) في مسألة الصلح من كتاب القضاء و الشهادات.

(2)- و قبلها قوله تعالي: وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ وَ لٰا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لٰا تُقٰاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ حَتّٰي يُقٰاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قٰاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزٰاءُ الْكٰافِرِينَ (البقرة [2] الآية 190 و 191)، و سيأتي الكلام عنها إن شاء اللّه في

مبحث الدفاع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 235

و ان كان وجوب المقاتلة ضد الذين يقاتلون المسلمين شأنا لتكون ناظرة الي الجهاد، أو فعلا ليرجع الي الدفاع، كما يؤيده آخر الآية، و انهم إن انتهوا فلا عدوان عليهم و لا مقاتلة ضدهم، إلا ان اطلاق الغاية و ايجاب مقاتلتهم لنفي الفتنة و صيرورة الدين كلّه للّه تعالي يوجب الجهاد علي الاطلاق، فإن الأرض ما دامت ملوّثة برجس الشرك و الكفر، فهي فتنة، لا بدّ للموحّدين أن يكافحوها و يجاهدوها، حتي تطهر الأرض منها، و يزول الرجس عنها، و يكون الدين للّه تعالي، ف إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ. (الانفال [8] الآية 55)

الثالثة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبٰاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً … - الي قوله تعالي-: فَلْيُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً* وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْ هٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظّٰالِمِ أَهْلُهٰا وَ اجْعَلْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً* الَّذِينَ آمَنُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّٰاغُوتِ فَقٰاتِلُوا أَوْلِيٰاءَ الشَّيْطٰانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطٰانِ كٰانَ ضَعِيفاً … - الي قوله تعالي-: أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. (النساء [4] الآية 71 الي 78)

الآيات المباركات في سياقها الخاص هي في بحث الكفر و الايمان، و ان كل ذنب و انحراف يقبل العفو و الغفران و يمكن أن يغمض عنه، غير الشرك و الكفر، فانهما افتراء و ظلم عظيم و اثم مبين «1».

ثم

توجيه البحث نحو الذين يصدّون عن سبيل الله و يؤيدون الكفر بأنهم الملعونون المردودون، أ لم تر انّ الله لعن الذين آمنوا بالجبت و الطاغوت، و قالوا

______________________________

(1)- و سنبحث عنه في كتاب المحرّمات إن شاء اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 236

للذين كفروا هؤلاء أهدي من الذين آمنوا سبيلا، يعني المؤمنين المسلمين، و من لعنه الله فلن تجد له نصيرا، و من صدّ عن سبيل الله فكفي بجهنم سعيرا، و الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نٰاراً كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا لِيَذُوقُوا الْعَذٰابَ.

ثم توجيه الكلام نحو الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا منعّمين مقرّبين.

بعد ذلك أمر المؤمنين بردّ الأمانات و الحكم بالعدل و اطاعة الله تعالي و اطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و ارجاع موارد الاختلاف إليهما دون الطاغوت، و ان الايمان بالله تعالي لا يجتمع مع التحاكم الي أهل الجبروت و الطغيان، و المؤمن لا يقبل سلطة الكفر عليه و علي شئون حياته، و عندئذ يظهر المنافقون أمرهم وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ: تَعٰالَوْا إِليٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ إِلَي الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنٰافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً، أولئك الذين لا يريدون حكومة الحق و دولته و يحلفون بالله انهم كذا و كذا، و الله يعلم ما في قلوبهم من النفاق و التمايل الي الظلمة و حكومة المنافقين الذين يهون لهم التمتع بحطام الدنيا و لذائذها.

مع ان الله تعالي ما أرسل من رسول الا ليطاع باذنه و يكون هو الحاكم المطاع بين الناس، و من ينوب عنه من وليّ حاكم إلهي بالحق و العدل، و المؤمنون لا يكونون مؤمنين حقا حتي يحكّموك (يا رسول الله)

فيما شجر بينهم و يطيعوك طاعة مطلقة إلا ان قليلا من الناس يكونون علي ذلك الحدّ الكامل من الايمان و الطاعة المطلقة بقلوبهم للحق و حكومة العدل، ألا تري لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل.

فهذا هو الكفر و الشرك و ذلك الايمان و التوحيد، و هؤلاء الكفار و المنافقون، و اولئك المؤمنون الذين يحكّمونك ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت، و هم المطيعون للّه و للرسول، فهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين و الصدّيقين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 237

و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا.

ففي مثل هذا السياق البيّن الواضح الشديد يأمر الله تعالي المؤمنين و يخاطبهم بقوله: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (النساء [4] الآية 71) و أسلحتكم، و أعدّوا و تهيئوا، فانفروا ثبات أو انفروا جميعا، و جاهدوا في سبيل الله لنشر الحق و الايمان، و الله يعلم ما في قلوبكم، و ما تخفي الصدور، فبعضكم من يتخلّف و ينتظر الأمر و يطمئن، فان أصاب المؤمنين المجاهدين مصيبة من شهادة أو انكسار يقول: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا، و إن أصابهم فضل من الله من فتح و غلبة و غنيمة قال: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.

و كيف كان فعلي المؤمنين الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، و هم المؤمنون حقا أن يقاتلوا في سبيل الله و لهم أجر عظيم، سواء كانوا قد غلبوا فاتحين أو غلبوا شهداء مقتولين فلهم احدي الحسنيين.

و ما لكم أيها المؤمنون لا تجيبون نداء الحق و هو نداء المستضعفين من الناس الذين يصرخون من شدة الظلم و الاعتداء حتي

النساء و الوالدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها و اجعل لنا من لدنك وليّا و اجعل لنا من لدنك نصيرا، حتي نتغلّب علي الظالمين، و ننجو من شقائهم و ظلمهم، و نعيش بالحق و العدل، فما لكم لا تجيبون هذه الصرخات و النداءات إلا النزر القليل؟ و لم لا تنصرونهم لتخرجوهم من ربقة الظلمة و الكفار الخونظ؟ و المؤمن بطبعه الايماني يقاتل و يجاهد في سبيل الله للايمان و الحق، كما ان الكافر و المشرك يجاهد في سبيل الطاغوت، و يسعي لحكومة الطغاة و سلطة الظلمة، حتي تتمتّع نفسه الطاغية معهم في نهب أموال الناس، و استعبادهم في مختلف الشئون، فما لكم لا تجيبون؟

و لا تقاتلون أولياء الشيطان و أتباع الطغاة؟ اعلموا أن كيد الشيطان و مكر الطغاة في جولانهم الحاكم كان في نظام الخلقة و قوانين العالم و إرادة الله تعالي كيدا و مكرا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 238

ضعيفا مغلوبا، و ليس علي شي ء، فمع تمام قوّته و تظاهراته فهو منكوب، و الله تعالي هو الغالب القاهر.

و اعلموا أن متاع الدنيا قليل، و ليس لحياتها دوام، و النتيجة في إيفاء الحق و تمكين التوحيد في الناس أبقي و أدوم، و ان انتهي الي الشهادة: أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتٰالُ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّٰاسَ كَخَشْيَةِ اللّٰهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قٰالُوا: رَبَّنٰا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتٰالَ لَوْ لٰا أَخَّرْتَنٰا إِليٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتٰاعُ الدُّنْيٰا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقيٰ وَ لٰا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (النساء [4] الآية 77)، و الشهادة في المعركة في سبيل الله

هي من أعظم الفيوضات الالهية، التي لا ينالها إلا من خصّه الله بها بلطفه و هي الحياة لا الموت. و الفرار عن مثل هذا الفوز لا ينجيكم (أيها الناس) عن الموت الذي لا بدّ منه، فانه أينما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم في بروج مشيّدة.

و الحاصل: ان الآية المباركة، بشدة التعبير، و صراحة اللهجة، توجب الجهاد و مقاتلة العدو و مناهضته في سبيل الله، و اقامة دينه الحق كما لا يخفي، و اطالة الكلام كانت لبيان السياق.

الرابعة: قوله تعالي:

فَقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا تُكَلَّفُ إِلّٰا نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَي اللّٰهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللّٰهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا. (النساء [4] الآية 84)

الآية الكريمة- في السياق الذي عرفته بتفصيل من الآية التي قبلها- فهي تأمر رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بأن يقاتل في سبيل الله و يتحمّل بنفسه الشريفة كلفة ذلك الأمر الثقيل و مشقته، و أشق منه انها تأمره (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بتحريض المؤمنين و ترغيبهم حتي يتهيّئوا للجهاد في سبيل الله و يستقيموا فيه، عسي الله أن يكفّ بأس الذين كفروا، فانه أشدّ بأسا و أشد تنكيلا، فيجب إذن مقاتلة الكفار الي أن يكفّ الله بأس الذين كفروا، و يزول شرّهم، و تطهر الأرض منهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 239

استثناء في الجهاد

الخامسة: قوله تعالي:

… فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لٰا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لٰا نَصِيراً* إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِليٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ أَوْ جٰاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقٰاتِلُوكُمْ أَوْ يُقٰاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقٰاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ

السَّلَمَ فَمٰا جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا* سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمٰا رُدُّوا إِلَي الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهٰا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولٰئِكُمْ جَعَلْنٰا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطٰاناً مُبِيناً. (النساء [4] الآية 89 الي 91)

الآيات المباركات في سياق آيات الجهاد التي قد عرفتها، فهي تشير أولا الي:

اختلاف المؤمنين في جواز مقاتلة المنافقين و عدمه، حتي صاروا فئتين:

ففئة منهم يحكمون عليهم بأنهم كفّار، حيث لم تؤمن قلوبهم، و ان شهدت ألسنتهم، فليس لهم حكم الاسلام أصلا، و يجوز مقاتلتهم، و كذا يحرم تولّيهم. و فئة يحكمون لهم بالاسلام، و يعتقدون بعدم جواز مقاتلتهم، لترتّب أحكام الاسلام و آثاره عليهم ظاهرا، فان الاسلام شهادتان و قرينتان.

و الاختلاف ذلك بنفسه كان علي حدّ ينافي مصالح المسلمين، فحذّرهم الله تعالي منه، و قال: ما لكم في المنافقين و قد صرتم بسببهم فئتين؟ اعلموا جميعا، و كونوا علي نظرة واحدة، بأن الله تعالي حكم عليهم بالكفر، و أركسهم و أعادهم فيما كانوا عليه بما كسبوا من نفاق، و الذين يظنون أنهم مسلمون، أ يريدون أن يهدوا من أضلّه الله من أولئك المنافقين؟ و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا، فانهم بنفاقهم قد ضلّوا عن الطريق السويّ، و باصرارهم علي النفاق، فلن يجدوا الي الحق سبيلا، بل انهم يريدون إضلالكم و نفاقكم حتي تكونوا كفارا علي سواء، فهم يصرّون عليكم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 240

بذلك.

فلا تتخذوا منهم أولياء معاشرين حتي يهاجروا في سبيل الله، و يتركوا قومهم الكفار و بلادهم و أموالهم و أولادهم، و يلتحقوا بكم علي الحق. فان فعلوا ذلك و هاجروا إليكم، فهم

مؤمنون بعضهم أولياء بعض.

و اما اذا تولّوا، و لم يهاجروا، و بقوا في بلاد الكفر علي نفاقهم، فهم كفار، فخذوهم و اقتلوهم حيث وجدتموهم في الحرم أو غيره، و لا تتخذوا منهم باسلامهم الظاهري وليا و لا نصيرا في الحرب و القتال مع سائر الكفار، إلا أن يكونوا لاجئين الي قوم بينكم و بينهم ميثاق و معاهدة بترك الحرب و وقف القتال، فلا يجوز نقض العهد بمحاربتهم بل يجوز معاملتهم في بعض الأمور الحربية معاملة الخصوم و الأعداء، و من المعلوم أن ذلك بعد وجوب التحفّظ علي الأساس و الأسرار، كما سيأتي تفصيل الكلام عنه في مبحث تولّي الكفار في كتاب المحرّمات ان شاء الله.

و كذا لا يجوز مقاتلتهم، اذا كانوا من الذين حصرت صدورهم في مقاتلتكم، أو مقاتلة قومهم الذين تقاتلونهم، فألقوا إليكم السلم و الأمن، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا، فلا يجوز تعقيبهم و قتالهم.

نعم إن كانوا ممن يمكر بكم، و يحتال عليكم، و يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم الذين تقاتلونهم، و لكن اذا اعيدوا في الفتنة من الكفر و الشرك و الحرب مع الاسلام، فلم يعتزلوكم في الحرب، و لم يلقوا إليكم السلم بطلب وقف القتال، و لم يكفّوا أيديهم و قواهم المحاربة عنكم، بل أعدّوا قواهم عليكم، و أبدوا استعداداتهم من الأجهزة و الأسلحة، فحينئذ لكم أن تأخذوهم و تقتلوهم حيث ثقفتموهم من دون رعاية شي ء من الحل أو الحرم، و قد جعل الله لكم عليهم سبيلا و سلطانا مبينا.

فالآيات المباركات- كما تري- بصراحتها تدل علي وجوب مقاتلة المنافقين الذين يراودون الكفار و المشركين، و يسعون في الارض فسادا ضدّ الاسلام

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 241

و المسلمين، و ان

تفوّهوا بالشهادة بالتوحيد و الرسالة، فهو علي الكذب و النفاق، فان الله قد أركسهم بما كسبوا فيما كانوا فيه، فهم كفار حكما في مقاتلتهم بشروط و حرمة توليتهم كما ذكرنا في محله.

و لا يجوز مقاتلتهم اذا استجاروا بقوم و تواصلوا بهم بأن كانت بينهم و بين المسلمين معاهدة استجارة و ترك المحاربة، تحفّظا للمعاهدة و الميثاق، و احتراما لهما، و يجوز مقاتلة الذين يخادعون المؤمنين، و يتعاونون مع أعدائهم، و لا يعتزلونكم و لا يكفون أيديهم و قواهم عنكم، فيجب أخذهم و قتلهم أينما كانوا.

السقاية و العمارة أم الجهاد

السادسة: قوله تعالي:

أَ جَعَلْتُمْ سِقٰايَةَ الْحٰاجِّ وَ عِمٰارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جٰاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰائِزُونَ- الي قوله تعالي-: قُلْ إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰي يَأْتِيَ اللّٰهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ. (التوبة [9] الآية 19 الي 24)

استفهمت الآيات تقريرا و سألت: هل يمكن أن يستوي سقاية الحاجّ و عمارة المسجد الحرام مع الايمان بالله و اليوم الآخر و المجاهدة في سبيل الله؟ و أين هذا من ذلك؟ لا يستوون عند الله، و الذين يقدّمون الرئاسة علي الجهاد و يعدّونها خيرا فهم الضالّون الظالمون، و الله لا يهدي القوم الظالمين، فان الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً

عِنْدَ اللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰائِزُونَ، و لهم البشري بالرحمة و الرضوان و جنّة ذات نعمة هم فيما خالدون و لهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 242

عند الله أجر عظيم.

و المؤمن بايمانه لا يمكن أن يتولّي الكافر بوجه من الوجوه، و لو كان من أقربائه كأبيه و أخيه، و من كان لديه الحياة المادية الزائلة و شئونها من أموال و أولاد أحبّ من الله و رسوله و جهاد في سبيله فليتربّص لأمر الله تعالي من الذلّة و الخسران في الدنيا تحت حكومة الكفر و الضلال و العذاب في الآخرة.

و اما جواب التقرير فهو تقدّم الجهاد علي كل منصب و مقام، و ان المجاهد أعظم درجة عند الله، و له أجر عظيم. و ان من تولّي الكفر و الكافر، و قدّم الحياة المادية علي الله و رسوله، فليتربّص لأمر الله، كل ذلك يدلّ علي وجوب الجهاد بأصرح من الأمر به- كما لا يخفي- لا سيما مع التوجّه الي تعبير الفسق: و الله لا يهدي القوم الفاسقين.

الأمر بالقتال

السابعة: قوله تعالي:

قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰي يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ. (التوبة [9] الآية 29)

الأمر بمقاتلة الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر أمر بالجهاد ضد كل كافر و مشرك، حتي يؤمن بالله و اليوم الآخر، و يكون الدين كلّه للّه، فان السماوات و الأرض و ما بينهما خلقن للانسان و لأجله، حتي يسلك الانسان طريقا ينتهي به الي ما لا ينتهي إليه مخلوق غيره و يرتقي الي أعلي مراحل الارتقاء، فان الكفر و الشرك

صدّ عن هذا السبيل، و ضلال عن هذا الطريق، و انهما يوجبان منع الغير أيضا، و تضييع الاستعدادات و قوي الانسان النوعية.

كما ان الأمر بمقاتلة من لا يحرّم ما حرّم الله و رسوله، و لا يدين بدين الحق، أمر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 243

بالجهاد ضد كل منتحل لدين أو كتاب، و لا يعتقد بحلاله و حرامه، و لا يعمل بأحكام الاسلام أيضا، كالذين أوتوا الكتاب من اليهود و النصاري و غيرهم، حتي يسلموا أو يقبلوا الاسلام بمرتبة من حكومته، و تسلّطه الكلي الحكومي، لينحل الكفر و يضمحل تدريجيا بوجود الاسلام، بأن يفرض عليهم الحاكم الاسلامي الجزية المقررة بما يراه مصلحة في ذلك، فيعطونها عن يد و هم صاغرون.

و بالملاك تبيّن الآية الكريمة وجوب المقاتلة ضد كل من يخالف الاسلام و أحكامه من حلال و حرام اعتقادا و عملا، حتي و لو كان من المسلمين، فكيف بزعمائهم و حكّامهم المخرّبين- بسيرتهم- صرح الاسلام القويم و أساسه المتين؛ و سنشير إليه في مبحث الدفاع ان شاء الله «1».

النفير للجهاد

الثامنة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مٰا لَكُمْ إِذٰا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ اثّٰاقَلْتُمْ إِلَي الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا مِنَ الْآخِرَةِ فَمٰا مَتٰاعُ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا فِي الْآخِرَةِ إِلّٰا قَلِيلٌ، إِلّٰا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لٰا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللّٰهُ عَليٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ*- الي قوله تعالي-: انْفِرُوا خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (التوبة [9] الآية 38 الي 41)

تخاطب الآية الكريمة المؤمنين تخصيصا بهم، و تقول مالكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الي الأرض؟ تظنّون أن التثاقل

الي الأرض و التوغّل في حطام الدنيا أبقي و أنفع لكم؟ و أعداء الله يصدّونكم عن سبيله؛ ليخرجوكم عن دينه فيحاولوا لأن يجعلوكم عبيدا للأهواء مقهورين للشهوات، راضين بالحياة الدنيا دون الآخرة.

______________________________

(1)- و قد أشبعنا الكلام في تلك المسائل في بحث الجهاد في رسالتنا (أبحاث فقهية علي مسلك الأصحاب).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 244

و اعلموا أن الله تعالي لا يترك خلقه سدي و لا يهملهم، فأعداؤه يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متمّ نوره، فانكم إن اثاقلتم الي الأرض، و رضيتم بالحياة الدنيا و شهواتها، فلن يضرّ الله شيئا، فانه تعالي سيستبدل قوما غيركم، فينفروا في سبيل الله و يجاهدوا له بقاء لحجته و ثباتا لدينه و شريعته بحوله و قوته، و الله علي كلّ شي ء قدير. و الذين يتثاقلون الي الأرض و لا ينفرون في سبيله سيعذّبهم عذابا أليما في الدنيا و الآخرة.

فانفروا أيها المؤمنون خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فانكم بجهادكم بالأموال و الأنفس، تنصرون الله و دينه فتزول الفتنة، و يكون الدين كلّه لله، فتصبحون سادة أقوياء صلحاء في الدنيا و سعداء في الآخرة.

و الحاصل ان الآية الكريمة تدل علي وجوب الجهاد في الجملة بأصرح وجه.

الفرق بين المتربّصين

التاسعة: قوله تعالي:

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا إِلّٰا إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينٰا فَتَرَبَّصُوا إِنّٰا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ. (التوبة [9] الآية 52)

الآية المباركة في سياق تقوية المؤمنين علي أمر الجهاد، و تثبيتهم عليه، و احصاء امتيازاتهم علي المنافقين المتثاقلين، فان المؤمنين اذا أمروا بالنفر و الجهاد، أطاعوا الله و رسوله بلا تثاقل حتي بالاستئذان الناشئ عنه،

و المنافقين يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، و الله يعلم انهم لكاذبون، مع انهم لو خرجوا مع المؤمنين لم يكونوا مجاهدين مخلصين، و لا متعاونين معهم، بل لزادوهم خبالا، و لأوضعوا خلالهم، ابتغاء الفتنة، و ان جهنّم لمحيطة بالكافرين، و لكن الله تعالي قد أظهر الأمر و جاء بالحق، و الحاصل ان المنافقين علي حال إن تصبك (يا رسول الله) حسنة من الفتح و التوفيق تسؤهم، و إن تصبك مصيبة يقولوا: قد أخذنا أمرنا من قبل، و يتولّوا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 245

و هم فرحون، و المؤمنون يطيعون الله و رسوله علي كل حال و في كل أمر و نهي.

هذا مقام المؤمنين و شأنهم، و ذلك موضع المنافقين و حالهم، و بعد تبيان هذا و ذلك، قال الله تعالي: قل للمنافقين: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا إِلّٰا إِحْدَي الْحُسْنَيَيْنِ من الفتح و الغلبة في سبيل الله، و اقامة الحق، و تثبيت العدل، أو الشهادة في الله و في سبيله و شريعته، و هو القائل: وَ لٰا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران [3] الآية 169). و أما نحن المؤمنين نتربّص بكم (أيها المنافقون) عذاب اللّه تعالي من عنده أو بأيدينا من القتل و الأسر، فتربّصوا إنّا معكم متربّصون.

و عندنا أن الآية الكريمة تدل علي وجوب الجهاد في الجملة، بمعني أن عذاب الله تعالي للمنافقين المخالفين المتحقق بأيدي المسلمين لا ينطبق إلا علي المقاتلين كما هو ظاهر لا خفاء فيه.

التشديد في الجهاد

العاشرة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ. (التوبة [9] الآية 73)

أمر الله تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و

آله و سلّم) بمجاهدة الكفّار و المنافقين و التغليظ عليهم و التشديد، فان مأواهم جهنّم، و هم يحلفون بالله ما قالوا، و لقد قالوا كلمة الكفر، و ان شرّ الدواب في الأرض الذين لا يؤمنون بالله و آياته.

و دلالة الأمر علي الوجوب- و لا سيما في مثل السياق- مما هو ظاهر. و توجيه الأمر نحو رسول الله لا يوجب التخصيص به، فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بمقام إمارته و زعامته علي المسلمين خوطب بذلك، فيجب عليهم اطاعته و امتثال أمره، وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ باذنه، حسب تناسب الحكم و الموضوع لا بنبوته.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 246

التقوي و الوسيلة في الجهاد

الحادية عشرة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّٰهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جٰاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (المائدة [5] الآية 35)

الآية الكريمة بعد الأمر بالجهاد، توجب التقوي و ابتغاء الوسيلة الي الله تعالي، ليصل بها العبد الي رضوانه، فتفيد الوجوب بلسان ألطف، إلا أن الآية الكريمة بسياقها كسابقتها فكأنّ المراد مجاهدة النفس، و هو الجهاد الأكبر، و لكن الأمر و ظهوره في الوجوب مما لا ينكر.

و قد جمعت آيات هذا النوع في قوله تعالي: وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (البقرة [2] الآية 244)

هذا كلّه في الآيات التي تدلّ علي وجوب الجهاد في الجملة و هناك أيضا آيات تؤيّد المطلوب نذكرها مشيرين الي وجه التأييد فيها:

ما يشير الي وجوب الجهاد

الأولي: قوله تعالي:

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلٰافَ رَسُولِ اللّٰهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ قٰالُوا لٰا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نٰارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كٰانُوا يَفْقَهُونَ. (التوبة [9] الآية 81)

و وجه التأييد ظاهر، فان الوعيد بنار جهنم و حرّها لمن يتخلّف، لا وجه له إلا تركه الجهاد الواجب، سواء فرح بذلك أو لا، فان التخلّف هو العلّة، و لا تأثير للفرح و الحزن كما هو ظاهر. بل ربّما يكون الوعيد بنار جهنم لقولهم: لا تنفروا في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 247

الحرّ، و منعهم من النفير، كما تشير الآية الكريمة.

الثانية: قوله تعالي:

وَ إِذٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ جٰاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قٰالُوا ذَرْنٰا نَكُنْ مَعَ الْقٰاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوٰالِفِ وَ طُبِعَ عَليٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لٰا يَفْقَهُونَ. (التوبة [9] الآية 86 و 87)

الآية الكريمة توضّح تفكير المنافقين و تجسّده، و

تبيّن لزوم الانفصال عنهم، و عدم الصلاة علي موتاهم، و القيام علي قبورهم، و ان كانوا أولي طول و ذوي ثروات و أولاد، إنما يريد الله أن يعذّبهم بها، و تشير الآية الكريمة الي موضعهم قبال مسألة الجهاد، فانهم اذا أمروا بالايمان بالله تعالي و الجهاد مع رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) استأذن أولو الطول منهم بالتخلّف، و قالوا: ذرنا نكن مع القاعدين. و منشأ ذلك ان الله تعالي قد طبع علي قلوبهم، فلا يفقهون الحق و السعادة و لا يشعرون بالفضيلة و الكرامة، فانهم لا يرون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا.

فان مختوم القلب و ممهور الفؤاد يرضي بالتخلّف دون الجهاد، و يفرح بالتحفّظ علي وضعه الموجود دون المؤمن الّذي يري بنور الله، و الذي يسعي بين يديه، فانه يذوق معني الحياة و يلمس روح السعادة، فيسعي الي الجهاد و يجيب دعوة الحق.

و من المعلوم انه لا اختصاص بالجهاد مع شخص الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فانه بزعامته و إمامته العامة يجب اتباعه، و يحرم التخلّف عنه، و المورد لا يخصص، فيجب ذلك مع كل امام معصوم أو نائبه، كما هو ظاهر. وفقنا الله تعالي و إياكم لمرضاته، و رزقنا و اياكم خيراته.

الثالثة: قوله تعالي بعد نفي الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون في سبيل الله من وسائل الحرب و أدواتها، من الضعفاء الذين كانوا يأتون الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ليحملهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 248

علي وسائط النقل، فيقول لهم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): لا أجد ما أحملكم عليه، فيتولون و أعينهم تفيض من الدمع حزنا.. يقول تعالي: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَي

الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِيٰاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوٰالِفِ وَ طَبَعَ اللّٰهُ عَليٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ.

(التوبة [9] الآية 93)

ان الآية الكريمة كسابقتها في التقريب و التأييد، فان المطبوع علي قلبه هو الذي ضلّ عن الطريق، فلم ير إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فرضي أن يكون مع الخوالف، انّه لا مناص له من السؤال و العقاب، بترك النفر بعد تمكّنه و غناه، دون المؤمن العارف غير المتمكّن.

الرابعة: قوله تعالي:

مٰا كٰانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرٰابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّٰهِ وَ لٰا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ … (التوبة [9] الآية 120)

تنفي الآية المباركة اختيار أهل المدينة، و هي البلد الطيّب، و كذلك اختيار الأعراب الذين حولهم من مواطنيهم شرعا، أن يتخلّفوا عن رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) عند ما كان يخرج غازيا، و كانت أنفسهم عندهم أحبّ إليهم من الله و رسوله، فيرغبون بأنفسهم عن نفسه الشريفة «1» فرارا عن المشاق و المشاكل، و تحرّزا عن أن يصيبهم ظمأ و عطش أو نصب و تعب من جوع و مخمصة، و قد عاشوا مستبطنين فاعتادوا علي الراحة و الحياة الحيوانية، و لم يلمسوا الحياة الحقة الشريفة الانسانية، بل انهم لم يشمّوا رائحتها، ليرغبوا فيها، و يعملوا لها، مع انهم لا يطئون موطئا، و لا يقطعون واديا، و لا ينالون من عدو نيلا يغيظ الكفار و يسيئهم ليبطلوا الباطل، و كذلك لا ينفقون نفقة قليلة أو كثيرة في طريق الحق و في سبيل الكرامة و الفضيلة

______________________________

(1)- أي ليس لهم أن يتوجّهوا بأنفسهم حفاظا عليها رغبة، و اعراضا عن نفسه الشريفة بتركهم الجهاد و التحفظ منه، و أصل الرغبة السعة فاذا

تعدّت ب (الي) و (في) أو (الباء) أفادت الميل و التوجّه، و اما اذا تعدت ب (عن) أفادت الاعراض و الصفح كما هو ظاهر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 249

الانسانية، ليحقوا الحق، إلا كتب لهم عملا صالحا ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون، إلا أن أكثرهم لا يشعرون بأصل هذه الفضيلة و الكرامة فكيف العمل بها؟

و نفي ذلك الاختيار شرعا نهي عن ترك الجهاد، و تحريم للتخلّف عنه، و افادة وجوب الجهاد بذلك البيان لعلّه أصرح من الأمر، من غير توقّف علي مسألة التلازم بين الأمر و النهي المتعلّق بأحد الضدّين.

و اما المورد و هو رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله) فلا يخصّص، فانه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بزعامته العامة و إمامته للأمة كان يحرم التخلّف عنه كما عن كل أمير نصبه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و لو كان شابا حدثا مثل أسامة بن زيد، و المتخلّف عنه كالمتخلّف عنه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)، فيشمل كل زمان مع كل أمير شرعي.

الخامسة: قوله تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ اشْتَريٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفيٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّٰهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بٰايَعْتُمْ بِهِ وَ ذٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

(التوبة [9] الآية 111)

تؤيد الآية الكريمة وجوب الجهاد، و لو أن دلالتها عليه ظاهرة، فان اشتراء الله تعالي أنفس المؤمنين و أموالهم بالجنة بأن يبذلوهما في سبيله، يثبت المطلوبية في حدّ أعلي ينطبق علي الوجوب «1» و قرار ذلك البيع و الوعد حق مقرر في الشرائع الالهية السالفة من زمن موسي و

عيسي (عليهما السّلام) و حتي زمن الاسلام. و من أوفي من الله عهدا في أدائه ثمن البيع الذي باعوه و فازوا به فوزا عظيما. و الجملة بسياقها تفيد دوام ذلك في كل زمان و مكان و لكل مؤمن من غير اختصاص.

______________________________

(1)- و في هذا السياق قوله تعالي: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَليٰ تِجٰارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ … (الصف [61] الآية 10 و 11).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 250

السادسة: قوله تعالي:

فَلٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ وَ جٰاهِدْهُمْ بِهِ جِهٰاداً كَبِيراً. (الفرقان [25] الآية 52)

الأمر بمجاهدة الكفار بعد النهي عن طاعتهم، و إن كان ظاهره الوجوب إلا ان السياق كأنه لا يكون في ذلك المقام، فالتأييد بلا اشكال.

تفضيل المجاهدين

السابعة: قوله تعالي:

لٰا يَسْتَوِي الْقٰاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّٰهُ الْمُجٰاهِدِينَ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَي الْقٰاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلًّا وَعَدَ اللّٰهُ الْحُسْنيٰ وَ فَضَّلَ اللّٰهُ الْمُجٰاهِدِينَ عَلَي الْقٰاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً* دَرَجٰاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً (النساء [4] الآية 95- 96)

الآية الكريمة كما تري توضّح حقيقة جليّة، يغفل عنها الانسان غالبا، و هي ان المجاهد بماله و طاقاته و حتي بنفسه في سبيل الله و طريق الحق و الفضيلة و الكرامة، لا يساويه الخامل القاعد الخائف علي وسائل راحته، المنقاد لكل ما حازه بلا تفاوت من سيئات أو حسنات أو من المستويات الشريفة العليّة أو الخسيسة الدنيّة؛ و الفضل لمن لا ينقاد إلا للفضيلة، و لا يعمل إلا للكرامة، فلا يجد و لا يجتهد إلا للّه تعالي، و هو مبدأ كل خير و سعادة و

رحمة، ألا و هو المجاهد في سبيل الله بنفسه و ماله و كل طاقاته.

و ذلك ظاهر غير مستور علي أحد حتي علي القاعد الخامل بنفسه، و هو بفطرته يحبّ النتائج العالية للجهاد، من غير جهاد و يحب الحصاد من غير زرع.

و الأمر في نفي التساوي هو عند الله تعالي أيضا، فقد فضّل المجاهدين

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 251

بأموالهم و أنفسهم علي القاعدين درجة «1» و فضلا و آتاهم أجرا عظيما رحمة و مغفرة منه و مراتب و درجات في الدنيا و الآخرة «2».

و من المعلوم ان هذه المقايسة هي مع القاعدين غير أولي الضرر، أي المتمكّنين من الجهاد، و اما المعذورين من الضعفاء و المرضي و من به ضرر من عمي أو عرج أو فلج بحيث لا يقدر علي الجهاد بوجه من الوجوه، و كذا الذين لا يجدون ما ينفقون في سبيل الله فليس عليهم حرج و لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا.

و كل ذلك فيمن جاهد و نهض بالأمر و قد كفي غيره، و إلا فعند الوجوب عينا كما اذا لم يكن من به الكفاية فلا تفاضل و لا مقايسة بل عصيان و اطاعة، و علي القاعدين في الفرض عذاب أليم، فانهم بقعودهم قد منعوا قيام المجاهدين حتي انقلب عليهم الأمر و تحوّل التكليف.

و كفائية الوجوب مفروضة من قبل، لا بدلالة الآية، فان الاطلاقات التي قد عرفتها تخاطب المؤمنين و زعماءهم، و تناسب الحكم و الموضوع أيضا يقتضي ذلك، و ما كان المؤمنون لينفروا كافة. فان ذلك و أشباهه مما لا يرضي الشارع المقدّس بتركه بين الأمة الاسلامية من غير دخل للمباشر كفائي كما هو ظاهر.

و قريب مما ذكر في الآيات السابقة في التأييد

آيات آخر سورة الأنفال في قوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ … -

الي قوله-: إِنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (الانفال [8] الآية 72 الي آخر السورة).

هذا تمام الكلام في النوع الأول من الآيات الراجعة الي أصل الوجوب «3»،

______________________________

(1)- الدرجة هنا طبيعتها التي تساعد الدرجات المتفاضلة المتعددة دون الواحدة المتشخصة المغايرة مع الاخري من غير اختصاص بالدنيا أو الآخرة بل عند اللّه تعالي فيهما.

(2)- بل للمجاهدين أيضا درجات حسب اختلاف مواقع القتال و شروط النضال كما يدل عليه قوله تعالي:

… لٰا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قٰاتَلَ أُولٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قٰاتَلُوا وَ كُلًّا وَعَدَ اللّٰهُ الْحُسْنيٰ … (الحديد [57] الآية 10).

(3)- و اما قوله تعالي: وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا … (الحجرات [49] 9)، و ان كان فيها الأمر بقتال الباغي من المؤمنين … إلا انها راجعة عندنا الي روابط الامة الاسلامية لا سيما مع ملاحظة السياق، ذكرناه في كتاب المجتمع و الآداب فراجع الجزء الرابع منه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 252

و قبل بيان آيات النوع الثاني نودّ الاجابة علي هذا السؤال، الذي هو سؤال عن سياق الآيات و الضمائر الصافية فيها الناظرة إليها، سؤال عن المسلم و فطرته السليمة، سؤال عن الانسان الكريم.

و هو انه لو كنّا امة مسلمة صالحة كريمة لكنّا أقوياء سعداء في كل المستويات العبادية منها و الثقافية و الاقتصادية و الطبية و السياسية، بل و في مختلف الشئون المادية و المعنوية، و حتي في المراكز الانتظامية الكفيلة بحفظ النظام الداخلي و الخارجي، و هذه مسئولية الحكومة الاسلامية الحقة في بلاد الاسلام بالنيابة

العامة، و لكنّا أيضا من ناحية القوي العسكرية و الأجهزة الحربية علي حدّ الكفاية، و لو كان عندئذ في جوارنا قوم يعيشون علي الكفر و الضلال و هم شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا (الأنفال [8] الآية 55). أو علي ملّة و كتاب غير الاسلام و القرآن الكريم، فاذا دعوناهم الي الاسلام و طريق الحق و لم يكن لهم عندئذ إلا التسليم و قبول الاسلام و العيش في ظل حكم القرآن و قبول الحكومة الحقة، أو إعطاء الجزية عن يد و هم صاغرون فيما اذا كانوا من اهل الكتاب و رغبوا في بقائهم علي ملتهم ليستدرجوا الي الاسلام بأجيالهم الآتية، و لكي ينجوا من محاربة المسلمين و بذلك سينتشر الاسلام في بلادهم، و سيدخلون في دين الله الحق، و سينجون من الضلال و سيكون الدين كلّه للّه.

و حينئذ هل يحتمل عدم جواز دعوتهم الي الاسلام و دين الحق و إبقاؤهم علي الكفر و الضلال و الفتنة بتعذّر اشتراط حضور شخص النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الأئمة المعصومين (عليهم السّلام)؟

و هل يحتمل ان تكون هداية الناس و زوال الكفر و الضلال عن سطح الأرض مطلوبا اذا كان بأمرهم (صلوات الله عليهم) دون اجازتهم و نيابتهم؟ أو هل في شمول أدلة النيابة شك و ترديد، مع ظاهر الآيات الموجبة، و كذا صريح اطلاق التعليل، و ان أصل المسألة عقلائي بعدم الاختصاص بشخص النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 253

و زمانه، بل انه بامامته العامة، و المورد لا يخصص.

و الجواب عندنا نفي ذلك الاشتراك و اطلاق الوجوب، و لزوم الدعوة و الارشاد الي الجهاد و المقاتلة في مثل

الظروف المفروضة، بعد تحصّل الشروط العقلائية و الشرعية المشروحة في الفصول الآتية إن شاء الله.

فعلي المسلمين كافة تطبيق الاسلام بأصوله و فروعه في بلادهم، و إعداد ما استطاعوا من قوة و مكنة، و عليهم أيضا مقايسة أعمالهم و أقوالهم و طبائعهم، بل و شئون حياتهم بالاسلام، لا أن يقيسوا الاسلام بها، فتحرّف فروعه و أصوله بمرور الزمن باسم الانعطاف الجاري في المصاديق و الموارد في الجملة لا في الاحكام و الكليات، كما يبتغيه الحكّام الظلمة و الطغاة الضالين تثبيتا لحكوماتهم الجائرة، و مكرا و تمويها لعوام الناس و الجهلة. صان الله تعالي الاسلام و المسلمين عن خداعهم و ما يمكرون و يكيدون.

و ما ذكرنا من السؤال و الجواب كان بعد ما رأيناه من المحقق المقدّس (رضوان اللّه تعالي عليه) ما لم نكن نتوقّع من مقام تحقيقه و حريّته «1» و ان كان الخطأ منّا فنرجو اللّه تعالي أن يتوب علينا انه هو التوّاب الرحيم.

______________________________

(1)- من قوله (رضي اللّه عنه): و حيث ان الجهاد لم يقع إلا مع الامام، و حينئذ لا نحتاج الي معرفة أحكامه، فتركنا باقي الآيات المتعلّقة به مثل: وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ … (النساء [4] الآية 75)، و أشار الي آيات اخري.

انتهي. مع ان أدلّ ما أشار إليه أظهر في الاطلاق، و قد ذكرناها تحت الرقم الثالث، فراجع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 254

[النوع الثاني: الآيات التي تدل علي كيفية القتال]

كيفيّة القتال

النوع الثاني:

في الآيات الراجعة الي كيفية القتال، و فيه آيات:

الاولي: قوله تعالي:

وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لٰا تَعْلَمُونَهُمُ اللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ يُوَفَّ

إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تُظْلَمُونَ. (الأنفال [8] الآية 60)

ترشد الآية الكريمة- عقلائيا- الي ما هو الشرط الأول لمقابلة الخصم و مقاتلة العدو من التهيؤ و الإعداد حتي يناسب القوي المقابلة و التقابل معا، و كذا من ناحية الحذر و الأسلحة و الجنود و التنظيم العسكري و المعرفة بفنون الحرب و شروط الزمان و المكان في استعمال الآلات الحربية البرية و البحرية و الجوية، و الأهم من ذلك كله امتلاك الايمان الراسخ عن بصيرة و وعي بغرض المحاربة و هدف المقاتلة.

فالأمر به أمر بمقدماته ابتداء، و قد صرّحت به الآية الكريمة بأن أعدّوا- أيها المؤمنون- ما استطعتم من قوة في كل زمان حسب مقتضياته و أشكال أسلحته، سواء كانت من خشب و حجر أو من رباط الخيل أو من الأسلحة النووية كما في عصرنا الحاضر التي تستعمل في الهواء و الفضاء و في أعماق البحر و أقطار البر.

فلا بد إذن من التهيؤ بمستوي يرهب عدوّ الله و عدوّكم- أيها المؤمنون- بحيث كلما طمع فيكم العدو شيئا رهب و انصرف مدهوشا، و اعلموا انكم كلما جاهدتم في سبيل الله كنتم أنتم الفاتحين إن شاء الله، و كلّما أنفقتم من مال و غيره في سبيل الله للتهيؤ و الإعداد سيوفّيه اللّه تعالي إليكم بتمامه بلا انعدام و لا نقصان و سوف لا تظلمون فتيلا.

ثم بعد التهيؤ و الحضور من قبل المؤمنين و تحصّل الشروط بأجمعها لا بدّ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 255

و أن يكون الجهاد و القتال مع عدوهم مسبوقا بدعوتهم الي الاسلام و ارشادهم الي الحق، فان أجابوا فيها فنعمّا هي، حيث انها أقرب الطرق للوصول الي المطلوب و المقصود، و مع احتمال قبولهم الاسلام لا يجوز

مقاتلتهم قطعا، كما هو الظاهر من العقل و الشرع، فان مناط وجوب الجهاد و ملاكه لم يكن إلا إزالة فتنة الكفر و تطهير الأرض من رجس الشرك، و صيرورة الدين كلّه للّه تعالي دون القتل و النهب و غصب الأموال و الأنفس تحكّما علي الناس و تسلّطا عليهم، كما هو المتعارف عند الأكاسرة و القياصرة الظلمة، و هم أنجس الأرجاس علي وجه الأرض، أزالهم الله عنها و أبعدهم عن الشعوب المستضعفة كما أبعدهم عن رحمته و عنايته.

الصبر و المثابرة

الثانية: قوله: تعالي:

يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَي الْقِتٰالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لٰا يَفْقَهُونَ* الْآنَ خَفَّفَ اللّٰهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صٰابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ مَعَ الصّٰابِرِينَ.

(الأنفال [8] الآية 65 و 66)

الآيتان الكريمتان تعنيان ما هو الأهم من إعداد القوي و الاستمداد العسكري، و هو اشتمال المقاتل المؤمن علي الصبر و الاستقامة، و تحمّله المشاكل و البلايا في ذات الله، و اعتقاده الراسخ و ايمانه القويم بالله و رسوله، و ان الجهاد في سبيل الله يجب أن يكون علي مستوي الروح الانسانية و البنية المعنوية الباطنية، بحيث يساوي كل واحد من جنود الاسلام عشرة من جنود الكفر، و بهذا يتمكّن عشرون صابرون من التغلّب علي مائتين، و لو ان هذا يتمّ بوجود قوي عسكرية أو تكتيك حربي، و لكن لا يكون إلا من شدة الصبر في ذات الله و قوة الايمان، و كان ذلك في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 256

عصر صدر الاسلام لقلة المسلمين و ضرورة

المقاومة علي أصعب الظروف «1».

و لكن بعد ما ثبت الله تعالي حوزة الاسلام، و أحكم بيضته بالمسلمين بدفع الخطر عن أصله و أساسه، علم أن فيهم ضعفا فخفّف عنهم، و جعل الوجوب علي حدّ يساوي كل واحد من المسلمين اثنين من الكفّار، فالمائة الصابرة منهم يغلبون مائتين، و الألف يغلبون ألفين. و هذا نهاية التخفيف علي المجاهدين في الاسلام.

فاذا كانوا علي ذلك الحدّ من حيث العدد، يجب عليهم من حيث ذلك، و ليس لهم الاعتذار بقلّة العدد و كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّٰهِ.

(البقرة [2] الآية 249)

و من المعلوم ان هذا أمر عقلائي، ينطبق علي شروط الحرب في تقابل الأشخاص المقاتلين رجالا أو ركبانا علي الخيل، و في الأسلحة كالسيف و الرمح و تكافح الرجلين في البين الي حدّ المصارعة.

و اما في زماننا هذا و إن كان للأفراد و إيمانهم دخل وافر في التوفيق، إلا أن الأهم توفّر آلات الحرب، و وجود الأسلحة الكافية من الدبابات و الطيارات و قاذفات القنابل بأنواعها الجوية و البرية و البحرية، و الأعظم دخلا في التوفيق هو امتلاك العلم و المعرفة بأسرار استعمال هذه الأسلحة، و رعاية شروطها و كيفية تطبيقها و اجرائها علي الخصم و مواقعه و ثكناته فلا بد من ملاحظة تناسب القوي علي إحدي النسبتين و مساعدتها علي وجه التمكّن من المقابلة بنسبة النصف أو الواحد للاثنين، و أما ايمان المقاتل المؤمن و عقيدته الصامدة الراسخة فهو الأهم و الأهم في مختلف

______________________________

(1)- كما لا يكون من طرف الكفار إلا من ضعف الصبر و قلّة الفهم الراجع الي موضعهم في الخلقة كما يشير إليه قوله تعالي بأنهم قوم لا يفقهون. و لقد ذكر الاستاذ

الدكتور الأمجد في مقالته المبسوطة خلال بيان مزايا التجنيد في القرون الأخيرة تحت الرقم التاسع: قد ثبت لدي الحكومات و الشعوب بعنوان اصل ثابت و ركن ركين ان اثر المعنويات و روحيات العسكريين و قيمتها قبال أثر الأسلحة و العدد ثلاثة أرباع، فالنجاح و التوفيق في الحرب يرتبط بالماديات ربعا و يحتاج الي الايمان و الاعتقاد ثلاثة أرباع. (نقلنا ذلك عن جريدة شهرية- ژاندارمري- رقم/ 286/ صفحة 19).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 257

الشروط و أنواع الأجهزة «1».

بأس الحديد

الثالثة: قوله تعالي:

لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. (الحديد [57] الآية 25)

الآية الكريمة بعد بيان الغرض الأول من ارسال الرسل و بعث الأنبياء و إنزال الكتب السماوية عليهم، و هو لم يكن إلا لاقامة العدل و بسط القسط بين الناس في الدنيا، حتي يكونوا سعداء فيها و في الآخرة، تعني ثانية الحديد الذي فيه بأس شديد و منافع للناس، و التناسب ظاهر، فان الحديد بمعناه العام هو الأساس لصناعة آلات الحرب و غيرها التي لا بدّ للرسل منها في إقامة العدل قبال المعاند الظالم بأشكالها و أنواعها المختلفة حسب المقتضيات.

و معني نزوله من السماء ما هو مبسوط في مقامه من النزول بأصله و مواده في المعادن المتكاملة بعوامل طبيعية، و هو من جنود الله التي في السماوات و الأرض، و البأس المودع في الحديد و منافعه الموجود فيه هو ما يقام به القسط باستعماله حال المحاربة مع الكفار و المشركين و الظالمين، و الله تعالي يعلم من ينصره و ينصر

رسله بالغيب عمّن لا يعتني بشأن العدل و الظلم و يعيش كالهمج الرعاع. لا سيما و أنّ البأس هنا بمعني القوة.

______________________________

(1)- و قد ذكر ضمن بيان اقوي العوامل التي اورثت التوفيق و النصر لاخواننا المسلمين العرب في جبهة سيناء و الجولان في حرب رمضان بعد نفاذ اجهزتهم الجديدة و أسلحتهم الدقيقة، هو تبديل المفهوم الشائع:

الرجل بسلاحه، الي مفهوم جديد و هو: قيمة السلاح بالرجل المسلّح به، ففي المفهوم الأول- كما تري- السلاح هو المعتمد عليه، و في المفهوم الثاني تمام الاعتماد علي روح المسلّح و ايمانه و اطمئنانه (عن ترجمة كتاب حرب رمضان/ ص 78) و يؤيد ذلك بل يدلّ عليه قوله تعالي: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّٰهُ فِي مَنٰامِكَ قَلِيلًا وَ لَوْ أَرٰاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنٰازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ (الانفال [8] 43).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 258

و كيف كان فالآية المباركة ترشد الي لزوم الانتفاع بمعدن الحديد لغرض المجاهدة في ذات الله و إزالة الفتنة عن أرضه، و إقامة العدل بين عباده في كل مكان و كل زمان حسب مقتضياته و متطلباته، من غير انحصار بالسيف و الرمح، و المسألة عقلائية. و هذا ما يدلنا علي ان القرآن اطلق كلمة «الحديد» للبأس، لأنّ الأسلحة الفتاكة تصنع من الحديد، أو أن للحديد اثرا في فعاليّتها حتي الأسلحة النووية في عصرنا الحاضر.

الترابط في القتال

الرابعة: قوله تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ.

(الصف [61] الآية 4)

الآية الكريمة ناظرة الي حالات المجاهدين و انهم علي أي وجه كانوا، فإنّ الايمان بالله تعالي و العقيدة الراسخة به هو الموجب لرصّ الصفوف و الاتحاد و التكاتف، و هذا له أثر وافر و سهم كامل في التوفيق و الفتح و

الغلبة، فلا بدّ و أن يكون المجاهدون مستقيمين مترابطين متراصّين كالبنيان الواحد المرصوص المتصل كل جزء منه بالآخر بحيث لا يمكن انفصال جزء منه إلا بهدمه، فان المؤمن للمؤمن كالبنيان الواحد يشدّ بعضه بعضا- كما في الحديث الشريف-، و الله لا يحب الجيش المتباعد المتشتت بهدفه و رأيه، بقلبه و فكره بل انه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ.

العنف في القتال مع التقوي

الخامسة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قٰاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّٰارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. (التوبة [9] الآية 123)

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 259

ترشد الآية الكريمة الي أمر عقلائي ظاهر أيضا، و هو ان علي جند الاسلام بعد اجتماع الشروط فيهم من تجهيز و تهيّؤ و تنظيم عسكري، و رصّ الصفوف، أي جعلها كالبنيان الواحد المرصوص، و أخذ الحذر حسب تناسب الزمان و المكان و غيرها من مستلزمات الحرب عليهم، أن يأخذوا في الجهاد بمن يليهم اي الأقرب فالأقرب، و يذهبون للقائهم و يثورون عليهم من جوانبهم مهما أمكن، و بهذا سيقضون علي الكفر و الكافرين، و سيكون القرآن الكريم هو الحاكم في الأرض، و ستنتفي فتنة الشرك و الكفر عن وجهها، و يكون الدين عندئذ كلّه لله.

فلا يجوز الابتداء بالأبعد إلا لمصلحة أقوي من شدة الخطر أو كثرة الأثر «1».

و كيف كان، فليكن المؤمنون في الحرب قاذفين نافذين قاطعين كل مانع، مزيلين و دافعين كل دافع علي وجه يجد الكفّار فيهم غلظة و شدة، فان المؤمنين أشدّاء علي الكفّار رحماء بينهم، فلا تأخذهم في الحرب رأفة و رحمة، و لا لومة لائم، و اعلموا أن الله مع المتقين. و هذا نهي عن أي عمل عنادي ينبثق

عن نفوس غير تقيّة زائدا علي ما لا بد من التوسل به في الحرب من تدمير و تخريب أو اعدام و احراق بعد الفتح و النصر و التسلّط علي الخصم أو علي بلده، بل حال الحرب ما لم تقتضيه الضرورة، فان الغرض النهائي من الجهاد في الاسلام هو نفي الفتنة و إزالتها عن وجه الأرض، و إعلاء كلمة الحق، و لا يساعد ذلك بطبعه الباطل و الفتنة، فلا يجوز استعمال أسلحة مخرّبة مع كفاية ما دونها، و يحرم استخدام الغازات الخانقة أو الحارقة و لا سيما التي لا تلتئم جراحاتها بسهولة كالنابالم مع كفاية استخدام ما دونها فان الله تعالي مع المتقين.

______________________________

(1)- و الأول علي القول بشمول الآية للدفاع أيضا، و أما علي اختصاصها بالجهاد الابتدائي كما هو الظاهر فالثاني فقط.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 260

كيفية الحرب و الأسر

السادسة: قوله تعالي:

فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰي إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰي تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا ذٰلِكَ وَ لَوْ يَشٰاءُ اللّٰهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمٰالَهُمْ. (محمد [47] الآية 4)

الآية الكريمة تأمر المجاهدين، في شدة مكافحة العدو و حين اشتعال نائرة الحرب، تأمرهم بلزوم الثبات و المقاومة، و ضرب رقاب الخصم و هم الذين كفروا حتي الإثخان بهم و التغلّب عليهم، و أخذ الأسري منهم، و التشديد عليهم حَتّٰي تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، فاما منّا بعد و إما فداء في التحرير بأخذ وجه قباله «1» و في مثل الحالات التي يواجه الانسان مع المال و النفس أخذا و بذلا يظهر ما في القلب و يعلم حقيقة الأحوال فان في تغيّر الأحوال علم

جواهر الرجال «2» و الله تعالي يبتلي بعضكم ببعض، و الشهداء المقتولون في سبيل الله لا يضلّ أعمالهم، و سيرونها حاضرة يوم القيامة، كما عليه ضرورة العقل و الدين. و يؤيد هذا البحث الآية المباركة التالية.

حرمة الفرار من الحرب

السابعة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلٰا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبٰارَ* وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّٰا مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِليٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ. (الانفال [8] الآية 15 و 16)

______________________________

(1)- و لا تهافت مع قوله تعالي: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (التوبة [9] الآية 5) بين الأوجه الثلاثة:

القتل و المن و الفداء الا بالعام و الخاص، و التخصيص مقدّم علي النسخ كما لا تخيير بين الثلاث؛ القتل، و المن، و الفداء، بجمع الاثنين لما ورد عن الامام الصادق (عليه السّلام) من انحصار الحكم بهما.

(2)- من الكلمات القصار لأمير المؤمنين علي (عليه السّلام) في نهج البلاغة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 261

صراحة الآية المباركة تلزم المؤمن المقاتل حال لقائه بالكفار زحفا «1» و جمعا تلزمه الثبات و المقاومة في المقابلة و المقاتلة معهم، و تحرّم الآية المباركة أيضا تولية الدبر، و صرف الوجه الي الخلف عنهم، و ان من ولي دبره يومئذ فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير، فهو من الكبائر كما أثبتناه في كتاب المحرّمات، إلا أن يكون التولّي تكتيكا حربيا، كالتحرّف عن القتال او التحيّز، و أخذ الحذر، و ما شابهه، الذي يورد التشكيك و الالتباس علي الخصم، و عندئذ يمكن احاطته و محاصرته مما هو ظاهر عند العقلاء و ولاة الأمر في الحرب علي اختلاف شروط الزمان و المكان.

الثبات و عدم التنازع

الثامنة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لٰا تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّٰهَ مَعَ الصّٰابِرِينَ. (الانفال [8] الآية 45

و 46)

إنّ الله تعالي يأمر المؤمنين في هذه الآية المباركة عند لقائهم مع فئة من الكفّار في الحرب و القتال يأمرهم بالثبات و ذكره تعالي كثيرا المؤيّد له، و يأمرهم أيضا بترك التنازع الموجب للاختلاف و التشتت المزيل لعظمة المسلمين و شوكتهم، فتذل رقابهم للأجانب و الأعادي، ثم يأمرهم تعالي بالصبر إيجابا فانه تعالي مع الصابرين فيقول: فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ … (محمد [47] الآية 35) و يقول: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوٰالِ وَ الْأَنْفُسِ … (البقرة [2] الآية 155)، و يقول: حَتّٰي نَعْلَمَ الْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ

______________________________

(1)- و في المفردات أصل الزحف انبعاث مع جرّ الرّجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي … و كالعسكر اذا كثر فيعسر انبعاثه، فينطبق علي التحرّك الجمعي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 262

وَ الصّٰابِرِينَ (محمد [47] الآية 31) و ليتميّزوا عن الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُديٰ لَنْ يَضُرُّوا اللّٰهَ شَيْئاً.

التاسعة: قوله تعالي:

فَلٰا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَي السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللّٰهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ. (محمد (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) [47] الآية 35)

الآية الكريمة تأمر المؤمنين أيضا بالاستقامة و الثبات و ان التسليم للخصم أو الدعوة إليه بايقاف الحرب منهي ممنوع عنه عند ما تكون الغلبة للمسلمين «1» و اعلموا أيها المؤمنون إنكم أنتم الأعلون و ان اللّٰهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ حينما توهّمتم المغلوبية و الضعف لقلة الأفراد مثلا.

و من المعلوم ان أصل البحث عقلائي، ترشد إليه الآيات المباركات؛ و الدعوة الي السلّم و الصلح منوطة بمصلحة الاسلام و المسلمين، يراه الحاكم الحق

و الأمير العادل حسب اختلاف شروط الزمان و المكان، فان اقتضت المصلحة ذلك فلا بأس به، كما في الآية المباركة التالية.

الإجابة الي السلم الحقّ

العاشرة: قوله تعالي:

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّٰهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ.

(الانفال [8] الآية 61 و 62)

فان جنوحهم و رغبتهم للسلم هو دعوتهم إليه فرارا عن أوزار الحرب، و الله تعالي قد أمر بقبوله ما اذا جنحوا له بقوله آمرا نبيّه فَاجْنَحْ و تقبّل منهم متعاهدا معهم، متوكلا علي الله، فان كانوا في ذلك صادقين فبها و نعمت، و ان يريدوا به

______________________________

(1)- الواو هنا حاليّة، و لو لم تكن كذلك لحرمت المهادنة مطلقا، و هي ليست كذلك.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 263

خداعك فلا تجنح لهم، و استقم كما امرت فان حسبك الله الذي أيّدك بنصره و بالمؤمنين، و لا يضرّك خداعهم في مناصرتك بعد الاستقامة و إدامة الجهاد.

و لمّا كان الأمر عقلائيّا مرشدا إليه، قد يجوز دعوة أمير المسلمين و حاكمهم الكفّار الي السلم بايقاف الحرب، كما يجوز الجنوح لدعوة الكفار إليه متعاهدين معهم إعدادا للقوة ما استطاعوا، و تجديدا لها، و تقوية لشئونهم الحيويّة و العسكرية حتي يرجعوا مكافحين مع تجمّع الشروط ثانيا، لا تسليما لهم حتي يؤدي الي نفوذ الكفر في الاسلام، فانه لن يجعل الله للكافرين علي المسلمين سبيلا، و المسلمون هم الأعلون بطبعهم.

الفحص قبل ردّ السلم

الحادية عشرة: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لٰا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقيٰ إِلَيْكُمُ السَّلٰامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا فَعِنْدَ اللّٰهِ مَغٰانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. (النساء [4] الآية 94)

الآية الكريمة بعد بيان حكم قتل المؤمن متعمدا، و ان جزاءه جهنم خالدا

فيها، تخاطب المؤمنين بأنهم حينما يضربون في سبيل الله فيخرجون، تأمرهم بالتبيّن و التفحّص عمّن ألقي إليهم السلام إشعارا باسلامه و دليلا علي ايمانه مجاهدا الي الله، و مقاتلا و غازيا في دينه فيلتقون به، فليس لهم ردّه ابتداء من غير تبيين، و لا يجوز الحكم عليه بالكفر من غير تفحّص، و لا يجوز قتله ابتغاء أمواله من حطام الدنيا، فَعِنْدَ اللّٰهِ مَغٰانِمُ كَثِيرَةٌ، فان سبقه بالكفر لا يدل علي بقائه عليه، بعد ما ألقي إليكم السلام- أيها المؤمنون- مع انكم كنتم كذلك كافرين من قبل، فمنّ الله تعالي عليكم، إذ بعث فيكم رسولا منكم و أنزل معه الكتاب، فأرشدكم الي الحق و أسلمتم.

ثم تؤكد النهي و تقوي الأمر بأن الله تعالي خبير بما تعملون و ما تتفكّرون من

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 264

التبيين و قبول قوله لظهوره، أو التبادر الي قتله بغير الحق و بلا تبين طمعا في أمواله و ابتغاء لغنائمه، فعند الله مغانم كثيرة، و هو بكل شي ء عليم و بما تعملون خبير.

فتدل الآية الكريمة علي حرمة قتل من أظهر الاسلام بكلامه، أو ألقي السلام المشعر به مطلقا، و لو حال الحرب، حتي يتبيّن حاله فان كلمة: «لا إله الا الله» حصن حصين، من دخله أمن من العذاب، و هو محكوم بحكم الاسلام ظاهرا، فلا يتصرّف في أمواله أيضا لذلك.

كل ذلك مع الشك في صدقه و احتمال بقائه علي كفره واقعا، و أما مع العلم بكفره واقعا بعد تظاهره بالاسلام، فلا يجوز قتله أيضا، إلا أن يقاتل المسلمين أو يعاضد مقاتليهم، كما فصلنا الكلام عنه في بحث النفاق، و سيأتي البحث عنه في كتاب المحرّمات أيضا، و أما مع العلم بصدقه و

ايمانه فحكمه ظاهر.

و لا يتوهّم اختصاص الخطاب بالذين كانوا كذلك في صدر الاسلام أو بعده من الذين سبقهم الكفر ثم أسلموا، و لقوا من ألقي إليهم السلام استنادا بقوله تعالي:

كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّٰهُ عَلَيْكُمْ (النساء [4] الآية 94)، أو اختصاصه بالمورد الذي نزلت فيه كائنا من كان من زيد بن أسامة «1» و قتله مرداسا و قد ألقي إليه السلام، أو غيره. فان المورد لا يخصصه.

كَذٰلِكَ كُنْتُمْ و هو جواب عن الاستناد بسبق الكفر سبيلا الي جواز القتل

______________________________

(1)- روي ابن عباس ان زيدا حلف أن لا يقتل من قال: «لا إله إلا الله» بعد نزول الآية و بذلك اعتذر عن تخلّفه عن علي (عليه السّلام) و بكرامته (عليه السّلام) قبل عذره.

تري كيف يعمل الجهل بالانسان و يجعله همجا حمقا، و كيف يخرجه عن الحق و العدل باسم الدين و الحق، فان نفس الآية قيّدت الأمر بالتبين، فيجوز بعده و بعد ظهور كفره و نفاقه كما صرّحت به الآية الاخري من لزوم مقاتلة الكفار و المنافقين و التغليظ عليهم من غير فرق، و الأصرح قوله تعالي: وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا … الي قوله تعالي: فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ (الحجرات [49] الآية 9) بعد الغموض عن أدلة وجوب اطاعة الامام (عليه السّلام) من الكتاب و السنّة و تصريح الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في علي (عليه السّلام) في قوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم): «يا علي حربك حربي و سلمك سلمي». (مجمع البيان/ ج 3 ص 95) أعاذنا اللّه من شرور انفسنا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 265

لا الاختصاص بمن كان كذلك كما تعلم.

شرعية معاهدة الكفّار

الثانية

عشرة: قوله تعالي:

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لٰا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لٰا يَتَّقُونَ* فَإِمّٰا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيٰانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَليٰ سَوٰاءٍ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْخٰائِنِينَ. (الأنفال [8] الآية 55 الي 58)

الآيات المباركات تكشف عن حقيقة في الكون و واقع في الخلقة، و هو أن شرّ ما يدبّ علي الأرض- من بين أنواعه الكثيرة- عند الله الذين كفروا بآيات الله من بني آدم، الذين ألقوا الستار علي الحق و ساروا غير مسيرة الخلقة، فلم يؤمنوا بما آمنت به السماوات و الأرض، فان الأحري للانسان أن يؤمن بالله تعالي و آياته و العمل بشريعته التي لا بدّ منها.

و في عصرك- يا أيها النبيّ- ان منهم (اي شرّ الدواب) الذين كفروا بك و بالهك، و قد عاهدتهم علي أن لا يحاربوك و لا يعاضدوا محاربيك، فمنهم من ينقضون العهد، و يصدّون عن سبيل الله، و يمنعونك عن الارشاد، ثم يعتذرون أليك و يتظاهرون بحفظ العهد، ثم ينقضونه ثانية و ثالثة، بل و كل مرة و هم لا يتّقون ذلك، بل لا يؤمنون بشي ء منه فكيف بالعهد و الوفاء به!!

و بما انهم شرّ الدواب، و انهم يضلّون عباد الله، و هم علي ضلال، فان ثقفتهم في الحرب فشرّد بهم و فرّقهم، و شدد عليهم و علي من خلفهم من معاونيهم لعلهم يتذكّرون، فيتوبوا و يؤمنوا أو يوفوا بعهدهم حتي يقع الاسلام موقعه و يذوب الكفر و ينحل شيئا فشيئا الي ان تزول الفتنة و تطهر الارض و يكون الدين كلّه لله.

و اما ان خفت

من قوم منهم خيانة حسب شروطهم الظاهرية بنقض العهد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 266

و العمل في جهة الاضرار بالاسلام و المسلمين فانبذ إليهم علي سواء بينهم فان الله لا يحبّ الخائنين.

فالآيات المباركات بصراحتها تدلّ علي أصل مشروعية المعاهدة مع الكفار، و ذلك لحفظ مصالح المسلمين، و تتلخّص بترك الخصومة و المحاربة و ترك معاونتهم المحاربين من الكفار، بل علي معاونتهم للمسلمين علي الكفار باستخدامهم علي أمور اجرائية غير بطانة علي نظارة إمارة المسلمين.

و من المعلوم ان المعاهدة علي ترك المحاربة لا بد و أن تكون محدودة و مؤقتة، حتي يستعد المسلمون ما استطاعوا و يستعيدوا قواهم، فيجوز لهم الجهاد بعد انقضاء المدة، و لا يجوز نقض العهد إلا بعد نقضهم، و الغدر في الحرب غير الغدر للحرب، فانّ «الوفاء لأهل الغدر غدر عند اللّه، و الغدر بأهل الغدر وفاء عند اللّه» «1» و ما لم ينقضوا عهدهم لم يكونوا من أهل الغدر، قال تعالي: … وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ* إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِليٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.

(التوبة [9] الآية 3 و 4)

و توجه الخطاب و الأوامر نحو الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) حيث لم يكن بشخصه أو برسالته فقط، بل بامامته و ولايته و زعامته العامة للمسلمين، فهي إذن لا تختص به و بزمانه فقط، بل تشمل كل زمان و كل زعيم شرعي للمسلمين.

الاستجارة

الثالثة عشرة: قوله تعالي:

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰي يَسْمَعَ كَلٰامَ اللّٰهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لٰا يَعْلَمُونَ. (التوبة [9] الآية 6)

______________________________

(1)- من قصار حكم الامام علي

(عليه السّلام) في نهج البلاغة رقم 259.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 267

الآية المباركة ضمن آيات الحرب مع الكفار، و انه لا بد من الارصاد لهم كل مرصد حتي يتوبوا و يؤمنوا، و انه لا وفاء لهم بعهودهم إلا اضطرارا، كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ و يتغلبوا لٰا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا و لا رحما و لا ودّا، يَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِهِمْ مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ و أقوالهم، و أكثرهم الفاسقون. اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدّوا عن سبيله انهم ساء ما كانوا يعملون، لا يرقبون في مؤمن إلّا و لا ذمّة، و لا يراعون حسبا و لا نسبا و قرابة أو عهدا أولئك هم المعتدون.

الكفار مع انهم كذلك و انهم لا يسلمون إلا لضرورة، و لا يتفوّهون به إلا فسقا و نفاقا، و لا يتعاهدون إلا مكرا و حيلة، و لا يستجيرون إلا تحفّظا علي دمائهم و أموالهم، يتربّصون بذلك الفرصة علي الاسلام … و الأمر و إن كان كذلك، إلّا ان أدب الاسلام و شرافة الشريعة و كرامة المسلمين و سماحة أميرهم و عظمة أحكام اللّه تعالي لكونها علي أساس الفطرة التي لا تبديل لها يقتضي اجارة المستجير كائنا من كان، و في أي حال مع التحفظ علي كيان الاسلام و مصالح المسلمين، فان أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰي يَسْمَعَ كَلٰامَ اللّٰهِ و يري نوره، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشيٰ، فانهم قوم لا يعلمون، ثم بعد ذلك أبلغه مأمنه و ارتياحه «1».

و من المعلوم انه ليس معني ذلك كرامة الاستجارة الخادعة منهم و اجارته من غير تحفّظ عليه، و ادخاله في مجتمع المسلمين، و إشرافه علي ما لا يصلح اشراف بعض المسلمين أيضا عليه من

بطانة الأمور و خفاياها، و لا سيما حال الحرب المبتني علي التستّر و الخفاء إلا علي الأوحدي من العسكريين الموثوقين بايمانهم و معرفتهم للامور، و لا سيما في زماننا هذا، و كآلات الحرب و رموز الأجهزة الحربية و الأسرار الخفية الدقيقة يكفي في الفشل لانكشاف بعضها للعدو كما لا يخفي.

فالاجارة واجب بعد استجارته ليسمع كلام الله و يصير من المسلمين أو ليبلغ

______________________________

(1)- هذا هو الفرق بين الأسير الذي عرفت حكمه إما منّا و إما فداء، و المستجير الذي لا بدّ من ابلاغه مأمنه بعد ما يسمع كلام اللّه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 268

مأمنه و يؤمن شرّه لا مطلقا.

الجهاد كما يريده الله تعالي

الرابعة عشر: قوله تعالي:

وَ جٰاهِدُوا فِي اللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ هُوَ اجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ. (الحج [22] الآية 78)

الآية المباركة لا تتكئ إلا علي الجهاد و انه لا بدّ و أن يقع علي حده و وجهه من غير توان و تسامح، و ان الجهاد في الله تعالي بأي وجه و طريق لا سيما الحرب و المقاتلة مع الكفار بشروطه لا بد و أن يكون علي حقه تحمّل المشاق و المصائب و الشهادة، و ما جعل عليكم في الدين و حمايته من مشقة و حرج باعتبار الأمة و المجتمع، فيجب الصبر من أجل ذلك و تحمّل المشاق و المشاكل و طروء الحوادث في سبيل الله، و المقاومة في المقاتلة حتي النصر، و التمكّن من أصل الغرض مما عرّفه مرارا و ان ذلك و إن كان بطبعه الاولي حرجيا حسب حال الأفراد، و لكن لا بد من تحمّله حفاظا علي كيان الاسلام و شوكته و أساس الامة من غير حرج عليها فانه

تعالي اجتباكم مسلمين ملّة أبيكم ابراهيم. و الآية تشتمل بعد الامر بالجهاد في الله تعالي حقه علي أمرين آخرين الاول ان الله تعالي هو الذي اجتباكم و اختاركم لهذه الفضيلة التي لا تختص بالاسلام فقط بل توجد في الشرائع الالهية من شيخ الأنبياء ابراهيم (علي نبينا و آله و عليه السلام) الي خاتم الأنبياء اولي العزم من الرّسل ملّة ابيكم ابراهيم. الثاني ان ذلك التشريع لا حرج فيه و لا ضغط، أي لا يكون في اي تشريع من المشروعات، و الدين شريعة سهلة سمحة، و الحرج و الضرر يرفع ذلك اذا كان زائدا علي ما في طبع المشروع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 269

[النوع الثالث: الآيات التي تدل علي وقت القتال]

ظروف القتال

النوع الثالث:

في آيات تدل علي وقت الجهاد و زمن القتال:

أولها- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرٰامِ قِتٰالٍ فِيهِ قُلْ قِتٰالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ وَ كُفْرٌ بِهِ … وَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ وَ إِخْرٰاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّٰهِ. (البقرة [2] الآية 217)

ما هو المسئول عنه أولا: حكم القتال في الشهر الحرام، الدال علي أن في البين شهرا بل أشهر يحرم فيها امور، فأجيب بأن القتال فيه من المحرّمات بل من الكبائر و انه صدّ عن سبيل الله و كفر به احتراما لتلك الشهور و احترازا عن القتال الذي يستدرج الي المقاتلة الجاهلية رأسا، التي كانت تشمل حياتهم بشئونها طول السنة و سلبت عنهم معيشتهم. و الاحترام هذا نظير رعاية اعلان وقف اطلاق النار المؤقت و الهدنة في الحرب، حتي يتمكّن من الوساطة و المفاوضات، و استكشاف طريق الفصل و الحل علي ما هو الحق في الاختلافات الموضوعية. و لعلّه لذلك كان نقض الحرمة و النسي ء صدّا عن سبيل الله و

كفرا به، فانه صدّ عن الوصول الي الحق و تحققه و ستر عليه، و هو كفر بالله العظيم بمرتبة، فان القتال اذا لم يكن للحق و حفظ التوحيد و بسط العدل علي وجه الارض، فهو توثّب جاهلي، و توحّش سبعي محرّم، كما هو متداول اليوم- و مع الأسف- بين من يدّعي الرقيّ و التمدّن من الدول الكبري الغربية و الشرقية. إذ نري توثّب كل واحدة علي الاخري، أو كلاهما علي من بينهما من الضعاف و لا سيما في الشرق الأقصي و الأوسط.

و كيف كان، فلا يجوز القتال في الشهر الحرام اجمالا، و أما انه جائز في كل وقت دونه، فهو أمر ملتمس من دليله، و ان كانت الآية الكريمة لا تخلو عن الاشعار بعدم الحرمة أو الوجوب المدلول عليه بما عرفت من الاطلاقات في غير الشهر الحرام كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 270

ثانيها- قوله تعالي:

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (التوبة [9] الآية 5)

و ثالثها- قوله تعالي:

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّٰهِ اثْنٰا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتٰابِ اللّٰهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضَ مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلٰا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قٰاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ* إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيٰادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عٰاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عٰاماً لِيُوٰاطِؤُا عِدَّةَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ فَيُحِلُّوا مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمٰالِهِمْ وَ اللّٰهُ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكٰافِرِينَ.

(التوبة [9] الآية 36 و 37)

الأولي من الآيتين تفيد بأن الشهر

الحرام الذي سئل عن القتال فيه من قبل، هو أشهر لا شهر واحد، فلا يجوز القتال فيها إلا بعد انسلاخها، فاذا انسلخت يجب القتال مع الكفار و التشديد عليهم فيه بأخذهم حيثما وجدوا، و الإرصاد لهم كل مرصد حتي يقتلوا أو يرجعوا عن كفرهم و يتوبوا الي الله و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة كسائر المسلمين.

و من الآية الثانية يستفاد أن عدة تلك الأشهر الحرم بين أشهر السنة الاثني عشر (عدة الشهور في كتاب الله) أربعة أشهر هي ذي القعدة، و ذي الحجة، و محرّم (ثلاثة سرد)، (و واحد فرد): رجب. و يستفاد من الآية الكريمة أيضا شدّة حرمة القتال في هذه الأشهر الأربعة، و ان ذلك حكم من أحكام الله و دينه، و تخلّفه ظلم علي النفس، و ان النسي ء بتبديل شهر في الحكم مكان الآخر خدعة و إيطاء للشهر الحرام، زيادة في الكفر و ضلال، و عمل سوء زيّن لهم، و الله لا يهدي القوم الكافرين، فلا تجوز المقاتلة ابتداء إلا بعد انسلاخ تلك الأشهر الحرم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 271

و أما ظهور الآية المباركة في كون الشهور اثني عشر شهرا تكوينيا في نظام الخلقة كتاب الله من أول يوم خلق السماوات و الأرض، لا جعلا اعتباريا كما عن الطبري (رضوان الله عليه) و إن صحّ في حرمة الأشهر الأربعة، و معني ذلك في التكوين الهلال الي الهلال المرئي للناس، و تجديد الفصل برودة و حرارة في أية نقطة من الارض و قطر من الأقطار، باثني عشر هلالا أو غير ذلك، و هذا بحث تفسيري خارج عن مقتضي الرسالة «1».

الأمر بالقتال عند نقض العهد

و رابعها- قوله تعالي:

وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي

دِينِكُمْ فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لٰا أَيْمٰانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ* أَ لٰا تُقٰاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرٰاجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. (التوبة [9] الآية 12 و 13 و 14)

الآيات المباركات تأمر مؤكّدة بمقاتلة أئمة الكفر و زعمائهم اذا نكثوا عهدهم، فانهم لا أيمان لهم بعد النقض و التحريض علي المقاتلة، فلم لا تقاتلوهم و هم بدءوكم بنقض العهد أول مرّة؟ فلا تخشوهم فان الله أحق أن تخشوه، فقاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم في الدنيا، و يخزهم في الآخرة، و ينصركم الله في الحرب فيشف صدوركم و يفرّح قلوبكم.

و من المعلوم ان الوجوب بذلك اللحن الشديد لدفع توهم بقاء الحرمة بعد نقض العهد مطلقا و الطعن في الدين من حرمة المقاتلة في الأشهر الحرم و غيرها،

______________________________

(1)- تكلمنا عنه اجمالا عند الكلام في الآيات المؤوّلة علي الائمة الاثني عشر المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 272

و بيان عدم الوجه لبقاء الحرمة، مع انهم هم الذين كانوا قد بدءوكم بالنقض أول مرّة و هتك حرمة العهد و حرمة الأشهر الحرم، فعليهم اثم ذلك فلا بد لكم من مقاتلتهم.

و بذلك يخصص اطلاق الآيات الدالة علي حرمة القتال في الأشهر الحرم، و انه لا حرمة بعد نقضهم في أي وقت و أي حكم أو عهد، و عليكم بالقتال، كما ان الأمر كذلك لدي العرف و العقلاء، فالحكم ارشادي كما لا يخفي.

مع صراحة قوله تعالي: الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ وَ

اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (البقرة [2] الآية 194) في الحكم، و سيأتي الكلام فيه في كتاب القصاص ان شاء الله.

هذا تمام الكلام في الجهاد و ما يرتبط به من متصديه و مجاهديه و كيفيته و وقته و لزوم مقابلة العدو و مقاتلته و العمل بالمثل مع من اعتدي.

الدفاع

الدفاع في اللغة منع الغير و ايجاد المانع علي طريق تحصّل المقتضي. و في المصطلح دفع الخصم و منعه عن مختلف شئون الحياة كالنفس و العرض و المال، و الدين من أعلي مراتب العرض و أثمن و أغلي شئون الحياة، حيث انه يدافع عنه بالمال و العرض بل بالنفس في بعض مراتبه، و هو أمر عقلائي يدركه كل انسان بل يحسّه كل ذي حياة، أرشدت إليه الآيات المباركات و روايات المعصومين (عليهم السّلام)، قال تعالي: وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً. (الحج [22] الآية 40)، فان الله تعالي دفع شرّ الناس عن شرائعه و مقدّساته و مساجده بأيدي آخرين منهم إبقاء لمعالم دينه، و إنارة لمشاعل شريعته علي طريق العباد الي السعادة الأبدية اللائقة بالانسان، وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَي الْعٰالَمِينَ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 273

(البقرة [2] الآية 251)

و لعلّك عرفت من ملاحظة آيات الجهاد علي كثرتها، و عنايتها في الشئون المختلفة منه، و حال شروعه، و حين اشتعال نائرة الحرب و عند ما تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، عرفت من ذلك ضعف ما احتمله البعض من انتفائه في الاسلام رأسا، و توجيه ما وقع في تأريخه الي الدفاع

توهّما منه ان ذلك ردّ علي الاعتراض بأن الاسلام قائم علي القهر و السيف دون الفطرة و العقل. مع ان فتح مكة في زمن حياة الرسول الاكرم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و بلاد مصر و ايران و أكثر الفتوحات التي وقعت في صدر الاسلام أي بعد وفاته (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) لم يكن إلا جهادا ابتدائيا كما هو ظاهر.

و الجواب عن هذا التوهّم بعد ما عرفت من الآيات أن خلق السماوات و الأرض كان للتوحيد و الحق، و إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيات الله «1» فاذا انتهي حفظ حق حاكمية الحق الي التوسّل بالسيف و القوة علي شروطه كان ذلك أمرا عقلائيا، يحكم بضرورته و يرشد إليه الشرع، و يقبله كل مجتمع فيما يراه حقا.

و الاسلام يتوسّل بذلك إقراعا لندائه مسمع الناس، و بعده يبقي بينهم بفطرتهم التي فطرهم الله عليها لا بالقهر. ألا تري سعة نطاقه و استغراقه الأقطار بعد زوال القهر، و الناس يتعاونون علي اسماعه الآخرين و انارة مشاعلهم، و ذلك لمساعدته نظام خلق الانسان و فطرته و نظام العالم و قوانينه، و قد عاداه كثير من الجبابرة و رؤساء الحكومات بل و زعماء المذاهب الاخري حفظا لمتاعهم القليل الفاني، و ما عند الله تعالي هو الباقي، و ليس هنا محل بسط الكلام. و كيف كان ففي المقام آيات بيّنات:

الأولي: قوله تعالي:

… وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.

(الحج [22] الآية 40)

______________________________

(1)- إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّٰهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ

لٰا يَعْقِلُونَ (الانفال [8] الآية 22).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 274

و الثانية: قوله تعالي:

وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَي الْعٰالَمِينَ. (البقرة [2] الآية 251)

الآيتان الكريمتان بتقريب واحد تصرّحان بأن الله تعالي يدافع عن الصلاة و عن المساجد ليذكر فيها اسمه كثيرا، و يدافع أيضا عن انسانية الناس و معيشتهم الصالحة السليمة في طريق الخير و الكمال؛ لئلا تفسد الأرض و من عليها، و هذا لا يكون بعد ارادته التكوينية في نظام الطبيعة إلا من الطرق الطبيعية، و بأيدي الناس، فببعضهم المؤمنين المطيعين يدفع شرّ المنافقين و الكفار المعاندين، و يجعل علي العباد وجوب الدفاع، و ينصرهم في حينه فانه تعالي لينصرنّ من ينصره و هو القوي العزيز، فيغلبون و يدفعون شرّ الكفار عن الصوامع و البيع و الصلوات و المساجد فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، و لو لا ذلك بعدم التكليف، أو عدم النصر، لفسدت الأرض بتسلّط شرّ الدواب الذين يكفرون بآيات الله، و يهدمون معابده، و الله ذو فضل علي العالمين و علي عباده، فلا يتركهم سدي و يأذن للمؤمنين في دفعهم الظلم بالمقاتلة فما دونها: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّٰهَ عَليٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. (الحج [22] الآية 39)

فالآيتان المباركتان و إن لم تكونا في مقام تشريع الايجاب أو الارشاد الي وجوب الدفاع العقلي، إلا أنّهما تفيدان بالصراحة تحقق الايجاب من قبل، بدفع البعض ببعض و نصر الناصر، و ان ذلك من شرائع الله تعالي و فضله علي العالمين، ليهتدي كثير من عباده، و ليتخلصوا من أيدي الظلمة الذين يصدّون عن سبيل الله، و يستضعفون الناس فيجعلونهم

شيعا.

الثالثة: قوله تعالي:

الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 275

(البقرة [2] الآية 195)

الآية المباركة علي ما قيل تشير الي أن الشهر الحرام الذي أحرم فيه المسلمون و دخلوا مكة فاتحين في السنة السابعة من الهجرة قبال الشهر الحرام الذي منعهم مشركوا مكة و كانوا قاصدين زيارة بيت الله الحرام في شهر ذي القعدة في السنة السادسة، إلا ان انطباق ذلك علي الكبري الكلية من قصاص الحرمات، و ترتب الأمر بالاعتداء علي من اعتدي بالمثل، يدل علي المطلوب بكليته من الاعتداء علي من اعتدي، و دفع من تعرّض، و صرع من صارع، الي الكفاح و القتال. و اطلاق الاعتداء علي الدفاع و المقابلة تسامح و تغليب، و لذلك لا يجوز التعدي عمّا اعتدي بل يقتصر عليه، و ليتق الله تعالي في الاعتداء بأكثر فان الله مع المتقين.

و من هذا الأصل يستخرج فروع كثيرة مبسوطة كوجوب الدفاع عن المال بمراتبه دون قتل اللص و السارق، و ان لم يكن علي القاتل شي ء، إن قتل السارق حال السرقة اتفاقا؛ فانه هو الذي عرّض نفسه لهذا المعرض، و كوجوب الدفاع عن العرض «1» و عن النفس أيضا، و قد أشبعنا الكلام حول فروع المقام في كتاب الجهاد من رسالتنا «أبحاث فقهية».

و ضابطة الأمر مراعاة الأهم فالأهم في نظر الشرع، و علي ذلك الأساس كانت فروع الدفاع عن الاسلام و القرآن و أحكام الله تعالي و حماه، و عن المسلمين و بلادهم و كل شأن من شئون حياتهم اذا داهمهم الكفر و الشرك بخديعاته و تمهيداته كما تعلم.

الرابعة:

قوله تعالي:

وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ وَ لٰا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ

______________________________

(1)- و قد ورد أنه ليس عليه شي ء بينه و بين الله لو قتل المتعرّض المتجاوز لعرضه أو قتلهما اذا وجدهما متناكحين مع الكلام في حده الظاهري و ان ذلك حق له يجوز أ و لا، علي ما في المفصلات.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 276

أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لٰا تُقٰاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ حَتّٰي يُقٰاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قٰاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزٰاءُ الْكٰافِرِينَ. (البقرة [2] الآية 191 و 190)

الآية الكريمة تأمر المسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم و تنهاهم عن الاعتداء فان الله لا يحبّ المعتدي كائنا من كان، و في اي مقام و شأن. و حيث ان ظاهر العنوان الفعليّة، فالذين يقاتلون المسلمين هم الكفار المهاجمون عليهم بالفعل، فيجب حينئذ قتالهم من غير اعتداء و تجاوز، اي قتل غير المقاتل أو المقاتل بعد استسلامه، أو بعد الغلبة في الجملة؛ و ليس ذلك إلا الدفاع بمنع شرّهم عن المسلمين، و لذلك أكّدت الآية الكريمة الأمر بالتشديد عليهم في قوله تعالي: وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ فانهم هم الذين أثاروا الفتنة و أوقدوا نار الحرب و القتال، و هي أشدّ منه.

نعم لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام مراعاة للحرم و حفظا لحرمته، إلا أن يقاتلوكم فيه، فاقتلوهم فيه أيضا، و إن كان خلاف حرمة المسجد، فانهم أول من نقض؛ و شأن الدفاع ذلك.

هذا علي الفعلية في الوصف و أما علي الشأنية فإنّ علي المسلمين قتال الذين يقاتلونهم بطبعهم و اعتقادهم أينما تمكّنوا، فان الذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت كما

يقاتل المؤمن في سبيل الله، فيرجع الأمر الي الجهاد كما يؤيد ذلك الكبري الكلية وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰي لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ بتقريب قد عرفته.

الهجرة

الهجرة هي مفارقة الانسان غيره، و متاركته بالجسم و الروح أو بأحدهما.

و اصطلاحا هي ترك بلد يألفه الي بلد آخر، لعدم تمكّنه عمّا يريد في معيشته أو الاتيان بشعائر مذهبه و مناسك دينه فيه. و الانسان مجبول علي الحرية و الاستقلال، و مفطور علي التوسّع في العمل، و لا سيما الاتيان بما يعتقده و يدين به

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 277

فاذا أحسّ المنع و المحدودية يكافح المانع و يعارضه بطبعه و سيرته و سلوكه، فاذا انتهي به الأمر الي عدم تمكّنه من القيام بشي ء، يخرج عن بيته مهاجرا الي الله و الي الخير و الحق، حتي ينتهي الي بلد يحسّ فيه الراحة و الحرية و التمكّن من العمل.

و الأمر في ذلك علي السواء بين حياة الفرد و المجتمع؛ و الاسلام بنظرته الثاقبة يري الهجرة واجبة فيما يتوقف عليها واجب، و راجحة في الراجح، و ذلك من مراتب الجهاد في سبيل الله و اعلان شعائره تعالي.

و في باب الهجرة آيات:

الأولي: قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّٰاهُمُ الْمَلٰائِكَةُ ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ قٰالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قٰالُوا كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قٰالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا فَأُولٰئِكَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لٰا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. (النساء [4] الآية 97 و 98)

الآيات المباركات تفيد عدم تمامية استدلال الظالمين أنفسهم بانحرافهم عن الحق و ابتلائهم بالباطل بالضعف، فكيف باستضعافهم الآخرين، فيقال لهم: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا حتي تتمكّنوا من إيفاء الحق

و الاتيان بما أمر الله تعالي به، و ما يدركه عقلكم الفطري الانساني من اكتساب الحسنات و ترك السيئات، فقد قال تعالي: وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا فَأَلْهَمَهٰا فُجُورَهٰا وَ تَقْوٰاهٰا (الشمس [91] الآية 8 و 7) فأولئك بظلمهم أنفسهم، و تركهم الهجرة، و بقائهم في بلاد لم يتمكّنوا من اقامة العدل و أداء الوظيفة «1»، مأواهم جهنم و ساءت مصيرا. و اذا كان ترك أمر يوجب نار جهنم و تصليتها، اذن فيجب فعله. و صدق الظلم بالنفس لا يكون بإطلاقه إلا في ترك الواجب، أو فعل المحرّم، فاذا اقتضي البقاء في بلد ذلك يجب الخروج و الهجرة عنه، و في ترك الراجح و فعل المرجوح يرجّح.

______________________________

(1)- لتسلّط الجبابرة و صيرورتهم مستضعفين بأيديهم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 278

نعم، المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة و وسيلة و لا يهتدون سبيلا للخروج و الهجرة ليس عليهم شي ء و لعلّ الله يغفر ذنوبهم الصغائر اذا اجتنبوا الكبائر و عملوا- حسب طاقتهم و محيطهم- بالواجبات و كان الله عفوا غفورا.

و من المعلوم ان الهجرة و ترك البلد المألوف الي بلد آخر يزيد في الايمان، و يضاعف العمل بشعائر الدين، و إن كان فيها المشاق و المصائب. و لكن من هاجر الي الله و الحق و الخير يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرٰاغَماً كَثِيراً «1» وَ سَعَةً و توفيقا منه تعالي يتحقق خلال ذلك من منازعات في الحق و الباطل و توفيق وسعة في الحق بتأييد الله تعالي و نصره فيصير الآخر مقهورا مرغوما و المهاجر في سعة.

و كفي في فضل المهاجر في سبيل الله من الباطل و الشرك الي الحق و الخير بترك بلاده الي منأي من المدن للتمكّن من إقامة

الحق و شعائر الله تعالي و إنارة مشاعله و توسعة شريعته زائدا علي نفس الخير و النور الذي يصل إليه قوله تعالي:

وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهٰاجِراً إِلَي اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَي اللّٰهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً (النساء [4] الآية 100)، فلا يؤجر بشي ء خاص معيّن من الجنّة و نعيمها بل علي الله تعالي أجره و لا نعرف فضلا في ذلك الحد.

الثانية: قوله تعالي:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلٰايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّٰي يُهٰاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلّٰا عَليٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. (الأنفال [8] الآية 72)

الآية الكريمة- كما تري- تنادي بإناطة الولاية التي هي من أوثق عري الايمان

______________________________

(1)- و ما ذكرنا من المعني اقرب باللغة مما ذكره صاحب المفردات من «مذاهب و منكرات يغضب عليها المهاجر»، فان الرغام كما ذكره هو التراب الرقيق (الدقيق) اي الغبار و السحيق، و المراغم بالفاعل من يرغم أنف خصمه علي الأرض فيتلطخ بالغبار فهو مراغم بالفتح أو مرغوم، و المهاجر في سبيل الله يجد مراغما كثيرا لا المنكرات و قد كان واجدها في البلدة التي هاجر عنها كما لا يخفي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 279

بالهجرة، و لا يكفي صرف قبول الاسلام بقول الشهادتين لدخوله في جمع المؤمنين ما لم يهاجر، و ان الولاية تكون بين الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ و بين الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا المجاهدين و هم

المؤمنون حقا، فليس لهم تلك الولاية حتي يهاجروا، و نفي ذلك يساوق نفي الايمان عنهم بتركهم الهجرة، فان المؤمن الذي لم يعد من جمع المؤمنين و لم يكن جزء منهم و لا من مجتمعهم، فلم يكن بينه و بينهم الولاية و التدافع و التناصر علي الحق و توسعة الأمر و ترويج الشرع، فليس بمؤمن حتي يهاجر و يتصل بالجمع و يشدّ ببعضه الآخرين ليكونوا كالبنيان الواحد المرصوص، فيؤثّر في جماعة المؤمنين و يقوّي حياتهم و يكون من المؤمنين حقا، فقد قال تعالي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (الانفال [8] الآية 74)، فجعل سبحانه لكل من الهجرة و المجاهدة دخلا في صدق الايمان بحق و كونه منهم كما جعل للايواء و تبوّأ المهاجر و نصرته سهما.

و حينئذ فدلالة الآية المباركة علي وجوب الهجرة فيما اذا لم يتمكّن في بلده من الاتصال بالمؤمنين و إيتاء الشعائر الدينية ظاهرة، إلا أن يكون لبقائه في بلد الكفر أثر أرجح من تبليغ الحق و ترويج الدين مع عدم الافتقار إليه في دار الايمان، فان ذلك أيضا جهاد في سبيل الله تعالي بوجه «1».

الثالثة: قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ هٰاجَرُوا فِي اللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مٰا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَليٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

(النحل [16] الآية 41 و 42)

تصرّح الآية المباركة بأن المهاجرين هم الذين يبوّئهم الله في الدنيا مبوّأ

______________________________

(1)- فيخصص اطلاق قوله تعالي: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلٰايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّٰي يُهٰاجِرُوا (الانفال [8] الآية 72) بذلك عقلا كما

هو ظاهر من غرض الهجرة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 280

حسنا و لهم في الآخرة أجر كبير، فان تنسيق الايمان و تنظيم اصوله و فروعه في الدنيا علي وجه ينتج التبوّؤ في الدنيا و التسلّط علي الارض بحكومة الحق و إقامة العدل، و في الآخرة يورث أجرا كبيرا لا يمكن إلا بالمجاهدة في سبيل الله و نشر معارفه و إقامة حدوده، و عند عدم التمكّن فالهجرة الي دار الايمان و الاتصال بالمؤمنين في إعلاء كلمة التوحيد أولي.

و حيث أنّ الوصول الي ذلك المقام مطلوب علي وجه الوجوب بمرتبة إقامة الواجبات و الاستحباب في ما دونها، فيجب المهاجرة اذا ظلموا في بلدهم و فتنوا فيه، و الصبر في سبيل ذلك علي المشاكل و المشاق و التوكل علي الله تعالي في طريق التقدّم و النصر، دون تحمّل الظلم و تسليط العدو و تقوية الحاكم الجائر و المنظمات الخائنة، و لو بالسكوت و المداهنة، فاذا قتلوا أو ماتوا في سبيل الحق لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّٰهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللّٰهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّٰازِقِينَ* لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ (الحج [22] الآية 59 و 58) و يرجح في بعض المراتب.

الرابعة: قوله تعالي:

إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هٰاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مٰا فُتِنُوا ثُمَّ جٰاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهٰا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. (النحل [16] الآية 110)

الآية المباركة في سياق الآية السابقة، فهي تفيد ان الله تعالي مع الذين هٰاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مٰا فُتِنُوا، و هو تعالي لهم و معهم لتركهم بلاد الكفر و الفساد، و توجههم الي مواضع الايمان و الصلاح، فلم يتحمّلوا الظلم و الطغيان بل جاهدوا في سبيل الله ضدّ الطغاة و الظلمة و صبروا علي مشاق ذلك، و هو تعالي ناصرهم و مؤيدهم حتي

يبوّئهم في الدنيا مبوأ حسنا و لهم في الآخرة أجر كبير، فتدلّ علي أن ذلك مطلوب مرغوب لا لنفسه بالذات، بل لإقامة الحق و اعلاء كلمة التوحيد، فتجب في مرتبته و تستحب في الاخري.

و في المقام أيضا آيات تدل علي ان للهجرة اثرا بالغا في السعادة و التوفيق في

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 281

الدنيا و الآخرة، كما هو كذلك بطبعها، مع ما فيها من المتاعب و المضايقات فان الله تعالي استجاب دعاء الذين قالوا: رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَليٰ رُسُلِكَ وَ لٰا تُخْزِنٰا يَوْمَ الْقِيٰامَةِ (آل عمران [3] الآية 194) فقال: أَنِّي لٰا أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثيٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هٰاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قٰاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ ثَوٰاباً مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوٰابِ. لٰا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلٰادِ (آل عمران [3] الآية 195 و 196)، و تسلّطهم أو تصرّفهم، فان ذلك متاع قليل و مأواهم جهنم و بئس المهاد، الي آخر ما تشير إليه الآيات المباركات من سورة آل عمران [3] الآية 197 و غيرها. و كذلك الذين يرجون رحمة الله تعالي و يأملون أن تنالهم خيراته في الدنيا و الآخرة، بأنهم هم الذين يؤمنون بالله و يهاجرون عن بلاد الكفر و الضلال الي مدن الحق و الايمان، و يجاهدون في سبيل الله فيتّصلون بعباد الرحمن المؤمنين، و يتعاونون علي الخيرات و المبرات، و هم يد واحدة علي من سواهم، دون الذين يهضمون حقوق غيرهم مهما كانت، و يتقرّبون بأنفسهم الي المستويات التي أنشأها الظلمة و الكفار، بل

يتقرّبون بها إليهم مذبذبين، فانهم الأشرار الأذلّاء الأسراء بأيديهم و عبيد الدنيا بأعمالهم، و الدين لعق علي ألسنتهم، يخافون علي طعامهم و شرابهم، و الأمر كلّه بيد الله تعالي و مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقيٰ. (القصص [28] الآية 60)

ثم لا يخفي انه كما ان للمهاجرين ذلك المقام الرفيع و الأجر الجزيل، فكذلك للذين يحبّون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرونهم علي أنفسهم و لو كان بهم خصاصة، المقام الرفيع لهم و الفلاح و النجاح، و لا سيما الذين يحبّون المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أَمْوٰالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً وَ يَنْصُرُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ. (الحشر [59] الآية 8)

فليس كل مهاجر من اي بلد كان و بأي قصد و نيّة، و لا كل من يبوّئ المهاجر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 282

و لو طمعا في ماله و مناله، يكون من الصادقين.

و لذلك لا بد للمسلمين عند التبوّؤ ان يمتحنوا المهاجرين إليهم، و يختبروهم، و لعلّ فيهم عيونا للأعداء و جواسيس للخصوم. فان وجدوهم صادقين والوهم، و هم منهم.

امتحان المهاجرين و المهاجرات

قال تعالي: يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ الْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلٰا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَي الْكُفّٰارِ …

(الممتحنة [60] الآية 10)، و من المعلوم انه لا فرق بينهنّ و بين المؤمنين إلا أن الملاك فيهنّ أقوي.

و الأمر كما لدي العقلاء: إنّ علي مجتمع الاسلام و المسلمين أن لا يقبلوا كلّ من هاجر إليهم و ادعي الاسلام و الايمان، فيعمل معه ابتداء عمل الاخوة و الولاية بعضهم مع بعض، بل حسب الظاهر يفتح له الطريق، و يرشد الي الخير و الصلاح، و

يختبر أ هو من المؤمنين حقا و صدقا، و ذلك تحفّظا علي ثغور المجتمع الاسلامي و كرامة الامة الاسلامية فلا الرد علي الاطلاق و لا القبول كذلك.

*** و الحاصل ان المؤمن اذا امتنع عليه العمل بشعائر ايمانه و مظاهر اسلامه في بلد ما، فعليه الهجرة عنه و تركه الي ما يتمكّن فيه علي الطاعة لأمر الله تعالي:

يٰا عِبٰادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وٰاسِعَةٌ فَإِيّٰايَ فَاعْبُدُونِ (العنكبوت [29] الآية 56).

و كلّما كان ذلك العمل و الشعار أوجب و أعظم، كانت الهجرة ألزم و أوجب حتي من الأذان المستحب، الواجب علي الحاكم الشرعي اشعاره في كل مجتمع اسلامي، إلا أن يكون لبقائه في البلد أثر أعظم و أقوي من التبليغ و تعريف الاسلام كما هو، و كذلك علي المؤمنين في بلدهم أن يجيروا و يبوّءوا المهاجر إليهم ابتغاء فضل الله

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 283

تعالي و رضوانه بعد الاختيار و الامتحان كما عرفت «1»، و قد أشبعنا الكلام في هذا الباب في مؤلّفنا: «رسائل فقهية علي طريق الأصحاب».

و اما الهجرة من الرذائل النفسية الي الفضائل الخلقية، و من الشرك الي التوحيد، كما تشير إليه آيات أصحاب الكهف و روايات في الباب، فهي تطبيق و تأويل كما هو ظاهر، و ان كان يساعدها المعني اللغوي كما عرفت.

خلاصة البحث

اشارة

يستفاد من آيات الباب مطالب؛ النوع الأول فروع، هي:

الأول: إن الجهاد مكتوب مفروض علي المسلمين في الجملة.

الثاني: انه يجب الجهاد ضد كل كافر و مشرك، حتي يكون الدين كلّه للّه تعالي، و مع كل من لا يحرّم ما حرّم الله و لا يحلّل ما أحلّ الله، و يفسد و يبدع في شرائع الله سواء كان من أهل الاسلام أو من أهل

الكتاب.

الثالث: انه يشترط في وجوب الجهاد وجود امير و زعيم شرعي، حتي يكون هو المحور و المرجع في تنظيم الأمور و تنسيقها، سواء كان الرسول الأكرم بنفسه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو من ينوب عنه بأمره، أو الأئمة المعصومين من بعده (عليهم السّلام)، أو نوّابهم الذين بأيديهم مجاري الأمور، و الذين يحرزون باقي الشروط المؤهّلة فيهم.

أيّدهم الله تعالي.

و من النوع الثاني فروع أيضا:

______________________________

(1)- و أما الامر باسراء موسي (علي نبينا و آله و عليه السلام) عباد الله؛ لكونهم متبعين حتي يغرق الخصم و يهلك كما في موارد ثلاثة (طه [20] الآية 77) و (الشعراء [26] الآية 52) و (الدخان [44] الآية 23)، و كذلك اسراء لوط بأهله ليلا حتي يهلك الظالمون كما في موضعين (هود [11] الآية 81) و (الحجر [15] الآية 65)، فليس من الامر بالهجرة إلا بنوع من التوسّع، و لا يشابه ذلك أمر رسول الله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) المسلمين بالهجرة الأولي الي الحبشة.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 284

الأول: يجب علي المسلمين اعداد القوي و التهيؤ في كل زمان حسب الشروط و المقتضيات علي حد يرهب الخصم و يقطع طمعهم في الاسلام و المسلمين، في جميع شئون حياتهم الفردية و الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و الطبية و غيرها.

الثاني: يجب دعوة الخصم الي الحق و الاسلام في كل سنة مرّة، فان أجابوا فبها، و إلّا يدعون الي قبول حاكمية الاسلام و زعامته بادائهم الجزية عن يد و هم صاغرون، و إلا فالمقاتلة معهم.

الثالث: يجب الجهاد بالمقاتلة حينما يكون عدد المسلمين بعسكرهم نصف الكفّار ليقابل الواحد الاثنين.

الرابع: يجب استخدام الآلات الحربية المتكاملة في كل عصر، حسب مقتضياته

من الحجر و الخشب أو السيف و الرمح أو القاذفات و الطائرات و النفّاثات الجوية و القوي البرية و البحرية، كما في زماننا هذا، و الأكمل في الآتي، و كل ما يثبته و يمكّنه الظرف.

الخامس: يجب تواصل العسكر المقاتل و اتحاد أفراده و اتفاقهم في الرأي بأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.

السادس: يجب جهاد الأقرب فالأقرب، قبل الأبعد إلا لمصلحة أقوي، كما اذا كان الأبعد أشدّ و أضرّ علي الاسلام.

السابع: يجب في الحرب أخذ الكفار بشدة و غلظة من غير رأفة و رحمة و لا الالتفات الي لومة لائم، كما يجب استمرار الحرب و الابقاء عليها بضرب الرقاب حتي اثخان الخصم بالجراح، و التغلّب عليهم ثم شدّ الوثاق علي الأسري حال الحرب، و بعد ان تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، فاما منّا بعد و إما فداء.

الثامن: يحرم علي المقاتل الهروب من العدو (تولّيه الدبر)، و التخوّف منه عن القتال، إلا لمصلحة الحرب من التحيّز الي فئة، أو أخذ الحذر و غيره. فيجب الثبات

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 285

و الاستقامة في الحرب، و ذكر الله كثيرا عند الحرب، و يحرم التنازع و الاختلاف الموجب للفشل.

التاسع: لا يجوز لأمير المسلمين بعد شروع الحرب الدعوة الي السلم و ترك القتال إلا لمصلحة يراها صائرة من غير أن ينتهي به الأمر الي أن يكون للكافرين علي المسلمين سبيل، و لن يجعل الله لهم عليهم سبيلا. فيجوز ذلك (السلم)، كما تجوز معاهدة ترك القتال مؤقتا لا دائما، بتركهم معاونة المحاربين، أو معاونتهم المسلمين استجارة علي أمور غير بطانة من عمليات.

العاشر: لا يجوز نقض العهد معهم و الابتداء بالحرب بعد الميثاق فان الله لا يحبّ الخائنين، و الغدر في الحرب غير نقض

العهد للحرب، فيجوز بعد انقضاء المدة أو نقضهم العهد كما هو ظاهر، و كذلك لا يجوز مقاتلة المنافقين الذين تواصلوا قوما بينكم و بينهم ميثاق و معاهدة إلا بعد النقض أو انقضاء المدة.

الحادي عشر: لا بد من تحمّل جميع مشاكل الحرب و مشاقّه حتي الشهادة.

و ما جعل عليكم في الدين من حرج، حتي في ما كان طبعه حرجيا بحسب حال الفرد، بعد ما كان فيه صلاح الجمع و حياتهم.

الثاني عشر: يجب إجارة المستجير في المحاربة كائنا من كان، مع التحفّظ علي كيان الاسلام و مصالحه، حتي يسمع كلام الله أو ايصاله الي مأمنه، فيري كرم و كرامة الاسلام و عظمة المسلمين في خلوّهم عن الأحقاد الشخصية.

و من النوع الثالث فرعان:

الأول: يحرم القتال في الأشهر الحرم، و هي رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، و محرّم، (ثلاثة سرد و واحد فرد).

الثاني: يجوز القتال في الأشهر الحرم عند نقض الكفار العهد، و هتك حرمته و الإثم عليهم فانهم هم الناكثون.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 286

و من آيات الدفاع فروع:

الأول: يجب الدفاع عن النفس و المال و العرض بأي وجه أمكن، فبالمال عن النفس و العرض، و بالعرض عن النفس، و بالنفس عن النفس مع رعاية الأهم فالأهم في المراتب و الدوران في نظر الشرع.

الثاني: يجب الدفاع عن الاسلام بمعارفه و عقائده، باصوله و فروعه و أحكامه، و عن المسلمين من بلادهم و أمصارهم و مختلف شئون حياتهم، بأي وجه أمكن مع ملاحظة الأهم فالأهم بنظر الشرع و مبناه، فيجب تفدية المال لحفظ ضروريات الدين، و دفع الشر عنها بدفع البدع و إعدامها، بل بالعرض و النفس في بعض المراحل.

الثالث: لا بأس بالدفاع لو اقتضي القتال في الشهر الحرام و المسجد الحرام

و إن أمكنه ذلك في الخارج، و لبسط الكلام محل آخر.

الرابع: لا يجوز قتل اللص و السارق، بل كل متوثّب حال الدفاع ابتداء، مع إمكان الدفع بدونه، و ليس عليه شي ء لو قتل اتفاقا، فانه هو الذي عرّض نفسه للقتل.

الخامس: لا يجوز تفدية النفس للمال و العرض، و لا بأس بما يتفق أحيانا من فديتها لهما، و جميع فروع الباب علي أصل مراعاة الأهم فالأهم بمنظار الشرع.

و من آيات الهجرة فروع:

الأول- تجب الهجرة علي المؤمن اذا امتنع عليه العمل بشعائر دينه و مظاهر اعتقاداته الي دار يتمكّن فيها منها، و كلما كان الشعار ألزم كانت الهجرة أوجب، و تستحب في المستحب.

الثاني- لا بأس بترك الهجرة في الحال اذا كان لبقائه في البلد أثر أنفع بحال الاسلام و المسلمين، من نشر كلمة الحق، و تنفيذ التوحيد بين أهله، و لا افتقار إليه في دار الايمان بألزم منه.

الثالث- يجب علي المؤمنين في دار الايمان أن يبوّءوا المهاجرين و يمكّنوهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 287

دورا تناسب شأنهم من غير طمع في المال و المنال، و هم يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا.

الرابع- لا بد من اختبار المهاجر و امتحانه بعد تبوّئه و قبوله ابتداء، فان وجد صادقا و محقا ائتمن به، و عدّ من مجتمعهم، له ما لهم و عليه ما عليهم، فلا تردّ الي الكفار النساء المهاجرات، بعد ما وجد فيهنّ الصدق، فانهنّ محرّمات علي الكفار، كما سيأتي بيانه ان شاء الله في كتاب النكاح.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 289

كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 291

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

الأمر و النهي كما حقق في الأصول هو طلب الفعل او الترك جدا عن العالي بوجه ممن دونه، و الظاهر المبيّن عند كل عرف، الشائع لديهم من غير نكير هو المعروف، كما ان البعيد المستور الممنوع عند كل عرف، منكر غير معروف عندهم. فالواجبات أعرف مصاديق المعروف بين المسلمين، كما ان المحرّمات أنكر المنكرات لديهم، و هكذا المستحب و المكروه الي الآداب الراجحة و المرجوحة حسب التداول و المرتبة، و في ذلك آيات:

الأولي: قوله تعالي:

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ

الْمُنْكَرِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (آل عمران [3] الآية 104)

الآية الكريمة في سياق الأمر بالاتحاد، و الاعتصام بحبل الله تعالي، و التحرّز عن التفرّق و الاختلاف، و التذكّر لنعم الله تعالي من رفع العداوة و البغضاء من بينهم، و ايجاد الأخوّة، و النجاة من النار، فهي تأمر صريحا بأنّه لا بدّ و أن يكون في مجتمع المسلمين في كل زمان و مكان أمّة يدعون الي الخير دعوة قاطعة، تنتهي الي العمل، يأمرون بالمعروف و يطلبونه مجدّين، و ينهون عن المنكر الي أن يترك. و المفلحون هم الأمّة الداعية، بل الذين بينهم الأمّة أجمع، فان الفلاح لا يتحصّل إلا بترك المنكر و اتيان المعروف، و ذلك لا يتحقق في مجتمع إلا بوجود من يأمر الناس بالمعروف و ينهاهم إلزاما عن المحرّمات، و يقيمهم علي تركها و قلعها في حياتهم المعاشية في مختلف شئونها، و علي فعل الواجبات و إقامتها علي أصولها و أصلابها فيها.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 292

و حيث ان الطلب و المنع علي ذلك الحدّ لا يكون في شأن كل أحد، فلا بد و ان يكون في كل مجتمع أمّة تتصدّي لذلك، و الأمّة هذه عليها أن تعرف المعروف لتأمر به، و المنكر لتنهي عنه، و تعلم بالتخلّف، و تكون علي حد يؤثر أمرها و نهيها من غير ضرر و إضرار، بلا اختصاص بمقام الحكومة و الموظفين في شئونها، كما توهّم من كلمة الأمة، و ان كانت الحكومة اولي و أقدم و بيدها القدرة و السيف كما في الحكومة الاسلامية.

فلا تسلب المسئولية عن مثل الأب بالنسبة الي أولاده و أهله و أقربائه و قبيلته، بل كل من كان أعلي من غيره بوجه، فان الوجوب

علي الكفاية، و المقطوع ان الغرض الأصلي تحقق المعروف و ترك المنكر في الخارج في مجتمع المسلمين من غير دخل لنفس الأمر و النهي بل الآمر و الناهي أيضا، فلا وجه للاختصاص بعد تحقق شروطه الطبيعية.

و كيف كان فلا اشكال في دلالة الآية علي أصل الوجوب و انه لو لم يكن في مجتمع اسلامي أمّة داعية الي الخير و آمرة بالمعروف و ناهية عن المنكر، يعاقب جميع أفراد المجتمع بحكم الكفائية.

و حيث ان الدعوة الي الخير- و لو من غير أمر و نهي- كثيرا ما تنتهي الي اتيان المعروف و ترك المنكر، بل هي من عوامله المهمة، فلا يبعد استظهار وجوب وجود الامة الداعية الي الخير أيضا من الآية الكريمة علي طريق تعدد المطلوب، حتي يكون لذكر الدعوة الأعم وجه، و الفلاح يتوقّف عليها أيضا.

الثانية: قوله تعالي:

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتٰابِ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفٰاسِقُونَ. (آل عمران [3] الآية 110)

الآية الكريمة تمدح المؤمنين بأنهم خير أمّة أخرجت للناس و أفضل مجتمع

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 293

في المجتمعات علي ملاك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و ذلك بنفسه، و ان كان لا يفيد الوجوب، إلا أن جعل الأمر و النهي مع الايمان بالله تعالي ملاك الخيرية و الأفضلية لعله يشعر به، و لا أقل من إفادة المطلوبية في حد يؤكّده.

الثالثة: قوله تعالي:

لَيْسُوا سَوٰاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ أُمَّةٌ قٰائِمَةٌ يَتْلُونَ آيٰاتِ اللّٰهِ آنٰاءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسٰارِعُونَ فِي الْخَيْرٰاتِ وَ أُولٰئِكَ مِنَ الصّٰالِحِينَ. (آل

عمران [3] الآية 113 و 114)

الآية الكريمة بتقريب سابق تمدح الامّة الآمرة بالمعروف و الناهية عن المنكر في سياق الايمان بالله و اليوم الآخر و القيام لعبادة الله تعالي آناء الليل و تلاوة آياته تعالي و هم يسجدون، و ان الامّة العاملة بذلك كله لا يساويها أهل الكتاب الذين لو آمنوا- بدورهم- لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون و أكثرهم الفاسقون، و أين الثري من الثريا.

و عندنا إشعار الآية بالوجوب، بل دلالتها عليه يكون بوجه ألطف من الأمر، فان ذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تلو الايمان بالله و اليوم الآخر حتي مع مسبوقيتهما بالتهجّد الراجح يشعر بالمطلوبية بأعلي حدّ، و إن أبيت فأصل الرجحان لا اشكال فيه.

الرابعة: قوله تعالي:

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* وَعَدَ اللّٰهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اللّٰهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. (التوبة [9] الآية 71 و 72)

الآية الكريمة تصف المؤمنين و المؤمنات بعد بيان وحدتهم و إن بعضهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 294

أولياء بعض «1» بأنهم يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة، و يطيعون الله تعالي و رسوله، و بذلك سيرحمهم الله و يدخلهم الجنات، و يؤويهم في مساكن طيّبة و رضوانه الأكبر في النهاية. فذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في سياق الواجبات من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة بل مطلق إطاعة الله و رسوله، مع التصريح بأن ذلك كلّه يوجب

رحمة الله و جنّته و رضوانه، أصرح في الدلالة علي الوجوب من كل أمر مباشر.

أضف الي ذلك توصيف المنافقين و المنافقات علي عكس ما ذكر، بعد بيان ان بعضهم من بعض، بأنهم يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف، و علي الكلية نسوا الله تعالي فنسيهم، و أعدّ لهم نار جهنم خالدين فيها هم و الكفار معا، فان البيان و إن كان لا يوجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لجواز الوسط من السكوت عنهما أمرا و نهيا، إلا أن دلالة المجموع مع التقابل مما لا ينكر.

الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة

الخامسة: قوله تعالي:

ادْعُ إِليٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. (النحل [16] الآية 125)

أمر الله تعالي بالدعوة الي سبيله بأي وجه أمكن و ما يناسبه الجوّ و المدعو من الحكمة و البرهان و بيان الآيات و الدلالة عليها و بها علي الله تعالي و سبيله أو الموعظة «2» و النصيحة بذكر الامثال و ما مضي علي الأمم و الأقوام من الاحوال، أو

______________________________

(1)- و أنت بحمد الله ممن كان له قلب، فتري ما في اختلاف تعبير بيان وحدة المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض، و في المنافقين بعضهم من بعض، قال تعالي: الْمُنٰافِقُونَ وَ الْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ … (التوبة [9] الآية 67).

(2)- و لنا في المقام مقال مطبوع تحت عنوان: «علي (عليه السّلام) بر منبر وعظ» افتتحناه بالآية الكريمة و أثبتنا فيه أن الأشمل الأنفع من الطريق هو الموعظة كما سلكه مولانا و إمامنا علي (عليه السّلام)

في أكثر خطبه.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 295

الجدال باسكات الخصم المنافق الذي لا يطلب الحق بما يقبله، و لو كان الباطل من المقال دفعا لشبهاته عن طريق الآخرين السالكين الي الله المتعال.

و لا نشكّ في أن الاتيان بالواجبات و ترك المحرّمات بل الاتيان بكل معروف و ترك كل منكر هو من أقوم الطرق الي الله تعالي و أقسط السبل إليه، اذا فالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أجلي مصاديق الدعوة المأمور بها فيجبان بوجوبها.

إلّا أن يقال ان الدعوة غير الأمر و النهي و كون اتيان المعروف و ترك المنكر سبيلا غير كون الأمر و النهي دعوة و لا تلازم بين وجوبهما، فإن الأمر بالدعوة قد يمتثل بالموعظة أو الجدال بل البرهان بلا أمر بالمعروف و نهي عن المنكر.

فانه يقال قد عرفت في الآية الأولي أن الدعوة الي الخير أعم، تشتمل علي الأمر و النهي، فان كل أمر و نهي دعوة أيضا و لا عكس، و ادعاء التباين دون اثباته خرط القتاد، فاذا وجب الأعم بجميع أفراده لا علي الاطلاق وجب الأخص في ضمنه أيضا، و ادعاء الوجوب علي نحو الاطلاق دون العموم بعد التصريح بالأفراد لبيان الشمول مشكل.

و لكن مع ذلك كله ففي الاستدلال بالآية مستقلا شي ء لا يخفي، و الذي يسهل الخطب أن أدلة الباب بأجمعها إرشاد الي ما يثبته العقل كما سيأتي.

ثم ان آخر الآية المباركة لعله يشير الي أن قلّة أصحاب المعروف و كثرة شيوع المنكر لا يسقط التكليف، فان عليك الهداية و الدعوة و الارشاد، و ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين.

السادسة: قوله تعالي:

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا

بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ. (الحج [22] الآية 41)

الآية الكريمة تصف الذين بهم دفع اللّه شرّ الكفار و المنافقين عن دينه و شريعته، فبقيت المساجد و الصوامع قائمة علي أصولها، و ارتفع ذكر الله تعالي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 296

علي منائرها، و استعلت كلمته في البلاد، فان الله تعالي ناصرهم و مؤيّدهم بنصرهم و تأييدهم لدينه، و حمايتهم له، و دفاعهم عنه. فتصفهم الآية المباركة بأنهم هم الذين اذا أعطيناهم المكنة، و منحناهم القوة، و جعلنا لهم سموّ الرأي و نفوذ الكلمة شكروا الله لنعمه، و استخدموها في إقامة حدوده و إجراء أحكامه باقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لا أنهم اذا مكّنوا أترفوا في دنياهم، و ألزموا أنفسهم المساكن، و نسوا الله تعالي و حدوده و أحكامه، و اعتذروا بعدم القدرة إعماء لأنفسهم، و أحكام الله تتغيّر بين ايديهم، و حدوده يتعدّي عليها بمرأي منهم، و عباد الله يقتلون و يسرقون و يقصون و يسجنون في بلادهم، فلا يردّون لهفتهم، و لا يزيلون محنتهم، بل انهم يسوّفون و يكثرون من التهليل و الحوقلة مع التقصير في أعمال المكنة و استعمال القدرة و لو بقدر الطاقة، أعاذنا الله من ذلك، مع ان مقاليد الامور بيده تعالي، و له جُنُودُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، و إليه عاقبة الأمور و منتهاها و قد أراد بإرادته بقاء نوره و دوام شريعته و لو كره الكافرون «1».

و الآية الكريمة و إن لم تشتمل إلا علي توصيف و تعريف لمن ينصر الله و دينه فينصره الله و ينصر دينه به، إلّا أن السياق و ارداف الأمر و النهي للصلاة و الزكاة

يعطي الوجوب بنحو ألطف من الكلام علي وجه الفصل في الوجوب كما لا يخفي.

السابعة: قوله تعالي:

يٰا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلٰاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَليٰ مٰا أَصٰابَكَ إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. (لقمان [31] الآية 17)

ذكرت الآية المباركة أمورا بلسان الحكيم لقمان لابنه و هو يعظه، فأمره بإقامة الصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و ذكرهما معها يشعر بالوجوب، و ان ذكر غير الصلاة أيضا قبلها و بعدها من واجب و حرام كإطاعة الوالدين و مصاحبتهما في

______________________________

(1)- و من المعلوم ان تلك العبارات كانت قبل نجاح الثورة الاسلامية و تحقّق حكومة الجمهورية الاسلامية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 297

الدنيا معروفا و الشرك باللّه فانه ظلم عظيم، أو مستحب و مكروه من الصبر علي المصائب و القصد في المشي، أو تصعير الخدّ للناس و المشي في الأرض مرحا كما هو ظاهر.

و نظن بعد ذلك كلّه أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ممّا لا ينكر وجوبهما عقلا أيضا، و يعرف ذلك العقلاء بأنفسهم، و الكلام قد يقع في الموضوع نفسه و ان ذلك منكر أولا، و معروف أولا، و الشارع لعلّه أرشد الي الحكم، و البحث الموضوعي مفروغ عنه، حتي في الواجبات و المحرّمات التعبديّة الشرعية، فانها معروف و منكر بدليل وجوبها و حرمتها.

خاتمة البحث

و لنشر في ختام البحث الي ما لا ينبغي تركه من الفرق بين النهي عن المنكر مع ردع البدع، وردها، فان موضوع الأول علي بقاء المنكر و المعروف علي ما هو عليه من المنكرية و المعروفية في الحكم و الاعتقاد، إلّا أن العمل وقع علي خلافه بترك معروف أو فعل منكر، فيجب الأمر و النهي علي من

اجتمعت فيه شروطهما بخلاف الثاني، فان مقامه قبل العمل و موضعه في الحكم و الاعتقاد، و إن كان العمل علي وفق الحق بجهة أخري، كما في التحجّب عن البرد، و الحكم قانونا بأنه لا حجاب في الاسلام، و لا يشترط في الردع علي من أدخل في الدين ما ليس منه، مثل جواز إسقاط الجنين، و ان الطلاق بيد المحكمة دون ذي الساق، و من أخذ به، أو اخرج عنه ما هو منه، مثل وجوب الحجاب، فقال بأنه ليس من الدين في مقام الحكم، فالأمر و النهي واجبات علي عموم المسلمين مع شروطهما، و الردّ واجب علي العالم به و الحاكم، و لا بد من تحمّل الضرر بل الاضرار بنفسه و المسلمين حسب أهمية البدعة الي تفدية الأموال و النفوس، كما أشرنا إليه في كتاب الجهاد و الدفاع، كما ان الأمر و النهي يجبان مع احتمال التأثير عقلائيا، دون رد البدع، فانه يجب مع القطع

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 298

بعدم التأثير فعلا أيضا تحفّظا علي الدين و أحكامه، و علي حكم الأجيال الآتية حول عمل الماضين، و أخذه دليلا، و لئلا يقولوا: لو لم يكن ذلك من الدين أو كان منه لخالفه السلف المسئولون؛ فيضلّوا بذلك عن الحق «1».

خلاصة البحث

1- يجب علي كل مجتمع اسلامي أن تكون فيه أمّة داعية الي الخير و لو بغير أمر و نهي، كما يجب عليهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كفاية، و لا سيما في مثل الأصول العامة و الفروع الهامة.

2- يجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر علي من اجتمعت فيه شروطهما عينا فلا يجوز التخلّف بوجه.

3- يشترط في وجوب الأمر و النهي أمور:

الأول: معرفة المعروف و المنكر.

الثاني:

العلم بتحقق الخلاف من ترك المعروف و ارتكاب المنكر.

الثالث: احتمال التأثير عقلائيا، فلا يجب عند القطع بعدم التأثير لا أنه يجب مع القطع بالتأثير.

الرابع: الاطمئنان بعدم الضرر و الاضرار له أو لغيره و به من المسلمين مع ملاحظة الأهم من الأثر و الضرر علي منظر الشرع.

و تمام الكلام مع ملاحظة السنّة و سائر الأدلة علي منوال الأصحاب في رسالتنا «مباحثات فقهية» باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و الحمد للّه أوّلا و آخرا و نسأله التوفيق.

______________________________

(1)- ذكر تلك الأمثلة في العبارات الخاصة لما كان ذلك قبل نجاح الثورة الاسلامية و تحقّق حكومة الجمهورية الاسلامية في ايران.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 299

كتاب الحدود

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 301

الحدود

معني الحدّ:

الحدّ يحيط بالشي ء فيشخّصه و يعيّنه و لو منطقيا من الجنس و الفصل، أو فلسفيا من المادة و الصورة، و بالملازمة بمنعه عن الاختلاط بالغير، و يدفع الغير عن الاختلاط به فيمتاز، لا أنه معناه، و أحكام اللّه تعالي حدوده التي تحيط بعباده المؤمنين و تميّزهم عن غيرهم، و الحدود اللازمة علي الطغاة و العصاة مثل ما علي السارق و الزاني و القاتل و المحارب من أحكام اللّه تعالي أيضا، و إن كان المخاطب و المسئول عنها مجتمع المسلمين، و المباشر لإجرائها الحاكم الشرعي الاسلامي و من ينصبه و يعيّنه ليتصدّي لأمورهم الحكومية، و لذلك أطلق عليها الحدّ كسائر أحكام اللّه، لا بما يمنع المحدود عن المعاودة كما عن المفردات، و في الكتاب آيات:

النهي عن القتل إلّا بالحق

الأولي: قوله تعالي:

وَ لٰا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّٰهُ إِلّٰا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً. (الاسراء [17] الآية 33)

تنهي الآية الكريمة عن قتل النفس التي حرّمها اللّه، فجعلها متحصّنة محفوظة محترمة، لا يجوز إيذاؤها و الإضرار بها، فكيف إعدامها إلّا علي وجه الحق أي المقابلة بالمثل بأن أعدم نفسا فيقتل قصاصا، ثم تجعل الآية الكريمة لوليّ المقتول

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 302

ظلما «1»، سلطة علي القاتل يفعل به ما يشاء من غير إسراف في القتل، بأن يقتص بواحدة أكثر منها، و السلطة هذه من مصاديق الأمر الكلي من أن المظلوم منصور علي النهاية في حكم اللّه المشروع، و في نظامه المكنون المطبوع. و من المعلوم أن متعلّق السلطان نفس القاتل فقط، فله أن يفعل بها ما يشاء من العفو و الصفح رحمة عليه من غير أخذ شي ء عنه، أو مع

الأخذ حسب التعارف فيأخذ الدية علي التفصيل الآتي أو يقتله نفسا بنفس.

حدّ قتل المؤمن خطأ

الثانية: قوله تعالي:

وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّٰا خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِليٰ أَهْلِهِ، إِلّٰا أَنْ يَصَّدَّقُوا، فَإِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِليٰ أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّٰهِ وَ كٰانَ اللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً. (النساء [4] الآية 92)

الآية المباركة بعد بيان حرمة نفوس المؤمنين، و أنّه لا يجوز للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه إلّا خطأ، بأن أراد أمرا آخر فانتهي الي قتل مؤمن، تبين [الآية المباركة] حكم ذلك، بأنّ عليه تحرير رقبة مؤمنة كفّارة للقتل، فانه بمنزلة إحياء نفس و إيرادها المجتمع عوضا عمّا أعدم، و إخراج دية مسلّمة الي أهله أداء لحق ورثة المقتول إلا أن يعفوا و يتصدّقوا علي من عليه الأداء، و لم يأخذوا منه، سواء كان المقتول منكم أو من قوم بينكم و بينهم ميثاق ترك المقاتلة، و أما لو كان من قوم عدوّ لكم فلا دية مردودة إليهم، و لو كان له ورثة مسلمون، بل يكتفي بتحرير رقبة مؤمنة، و من لم يجد

______________________________

(1)- أي عمدا فان العامد هو الظالم فلا يشمل قتل الخطأ فالآية راجعة الي العمد لا الي الخطأ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 303

ما لا ليشتري به رقبة أو يؤدي دية أو لم يجد رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين توبة من الله تعالي عليه، و الله تعالي يعلم أنّه واجد أو لا، كما يعلم خطأه و عمده في نفس الأمر، و

هو العليم الخبير.

ثم إنّ ظاهر الآية- كما تري- ان الدية علي من عليه الكفارة، و لكن اتفق النص و الفتوي علي أنها علي عاقلة الجاني و أقربائه لا عليه، فان الآية لا تنافي ذلك لذكر نفس الدية، و الظاهر لا يقاوم النص، و لعلّ سرّ ذلك انه يمنع من ظهور التعاند و التضارب بين اسرتي القاتل و المقتول، فاذا أدي أقرباء القاتل مالا الي أسرة المقتول و أقربائه تتقارب الأسرتين، و تغضّان عمّا وقع خطأ، فيندفع التعاند.

و اما مقدار الدية في النفس و الأعضاء و في الجروح فلم يذكر في الآيات إلّا بعنوان المعروف و الاحسان كما في الآية الأولي من كتاب القصاص (البقرة [2] الآية 178)، و باسم التصدّق كما في الثانية منه (المائدة [5] الآية 45)، الظاهر في عدم تعيّن مقدار مشخّص و جواز الاختلاف حسب اختلاف الشروط زمانا و مكانا، و يمكن أن يستدل عليه بذكر الابل و البقر و الغنم ثم الدرهم و الدينار، و قيمة الأنعام تختلف، و لكن الأمر ليس كذلك، و قد فصّلت السنّة الشريفة حدود الدية في كل من المذكورات كما في المفصلات، و احتمال أن تكون المذكورات فيها بعنوان المصداق دون التعيين محل بحث، لا بد من ملاحظة لسان السنّة الشريفة المبيّنة التي هي عدل الكتاب.

حدّ من حارب الله و رسوله

اشارة

الثالثة: قوله تعالي:

إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ* إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 304

عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (المائدة [5] الآية

33 و 34)

تحكم الآية الكريمة علي الذين يحاربون الله و رسوله بسلّهم السيف و حملهم السلاح، و بالجملة بإطلاق النار علي المؤمنين و بلادهم بما هم مؤمنون، و علي نواميس الله تعالي و أحكامه مما جاء به النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من المشروعات و الأحكام المقدّسة، و كذلك تحكم علي الذين يسعون في الأرض فسادا باخلال نظم المسلمين و ايجاد الهرج و المرج، و يبتغون في دين الله اعوجاجا كائنا من كان، و في اي مقام، و بأي وجه حارب، تحكم الآية عليهم بالقتل أو الصلب، اي يقتّل به تشديدا في العذاب أو قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف بقطع يده اليمني من الأصابع أو وسط الكف و رجله اليسري من وسط القدم و يترك حتي يموت لعذاب أشد، أو نفيهم من أرض البلد المحارب علي اختلاف مراتب محاربتهم و فسادهم، و علي اختيار من الحاكم حسب ما يراه مصلحة بالنسبة إليه في تلك الأطراف و خصوصيات كل طرف، ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم.

و من المعلوم ان ذكر المحارب لله و رسوله و حكمه في ذلك السياق بين حكم القاتل و السارق و بعد بيان حكمهما، مستقلا يدلّ علي انه لا يكون المراد من يريد أموال الناس و أنفسهم، بل الذي يحارب دين الله تعالي و شريعته، و يعاند الحق بصدّ سبيل الله علي الناس مع السلاح و الكفاح، و أي فساد في الارض أشدّ و أعظم من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه و السعي في خرابها بالنهي عن الصلاة و الصيام و منع بيان معارف الاسلام و الأمر بالمنكرات و منهياته تعالي

و محرّماته و نشر المضلّات «1»، فلا يختص بمن يحارب المسلمين لأموالهم و أعراضهم من غير تعرّض بشرائع الله، كما ذكره الأصحاب فان ذلك بطريق أولي، و يؤيد ما ذكرنا لو لم يدل عليه عدم سقوط عذاب الآخرة عنه باجراء الحدّ عليه كما في سائر الحدود،

______________________________

(1)- قال تعالي: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ … » (التوبة [9] الآية 9).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 305

و لهم في الآخرة عذاب عظيم «1».

و كيف كان فعلي مجتمع المسلمين قلع مادة الفساد و إزالة الرجس عن أمتهم بأي طريق أمكن، و المجري لمثل تلك الاحكام الوليّ الحاكم علي المسلمين، و هو الامام المعصوم (عليه السّلام) أو من ينوب عنه علي ما عرفت في كتاب الولاية، من أيّة طبقة كان المحكوم، و لو من الحاكمين الجائرين في الظاهر، فعلي الوليّ قتل المحارب، أو صلبه علي رءوس الأشهاد حتي يكون عبرة للآخرين، أو قطع يده و رجله من خلاف باليمني و اليسري، و أقل تعذيبهم النفي من البلد و الاقصاء الي محل لا يتمكن فيه من القول و الفعل علي خلاف مصالح الاسلام، لو كان المراد من الأرض البلد «2».

كفائية الحدود

و أنت تعلم ان المطلوب في الكفائيات تحققها في الخارج من غير دخل لمباشر خاص في أصل المطلوب، و المباشر مقصود ثان لحفظ حقوق المجتمع، و المنع عن الهرج و المرج، و عليه فان لم يتمكّن الحاكم بالحق من ذلك، فعلي عدول المسلمين، ثم عليهم بأجمعهم، بحيث لو تركوا ذلك كانوا عصاة معاقبين علي ذنبهم، و هو ترك حدود الله تعالي بين الأمة.

فلو فسدت

الحكومة و انحرفت عن طريق الحق و العدل و استعملت الموظفين و المنظمات في طريق المشتهيات علي خلاف الاسلام و مصالح المسلمين فأخذوا يسعون في الأرض فسادا، و يبتغون في دين الله اعوجاجا، و لم يكن من يجري عليهم حدود الله تعالي، و يمنعهم عن محاربة الله و رسوله، فعلي

______________________________

(1)- كما يؤيد بل يدل علي ما ذكرنا قوله تعالي بعده: «إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» (المائدة [5] الآية 34)، الظاهر في التسلّط عليهم دون إقرارهم لدي الحاكم.

(2)- حكما عن الاصحاب و عندنا صدق عدم كونه علي الأرض بما هو انسان بمنعه عن الحقوق الاجتماعية و إلا فالمفسد لا فرق له بين بلد و بلد و يحتمل النفي بوجه كان من أقسام القتل السابق عليه احتمالا ضعيفا.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 306

جميع المسلمين القيام بوجههم حتي النصر و الفتح بقتلهم و صلبهم أو نفيهم و قطع الأيدي و الأرجل؛ و بالجملة بقلع مادة الفساد حتي تسوية المنظمات و ادارتها علي المدارات الاسلامية، و لا سيما علي الذين لهم بين المسلمين مقام متّبع و موقع مرموق، الذين يقتدي بهم الناس اذا تقدّموا، و يتركون الأمر اذا تساهلوا و تسامحوا، و لا سيما علي الذين اذا ظهرت البدع فعليهم أن يظهروا علمهم، و إلا ألجموا بلجام من نار، فانهم أمناء الله في بلاده، و منار الله علي عباده، فعليهم قبل كل أحد إجراء الحدود الشرعية، و دفع المحارب المعاند للّه و رسوله.

و عندنا ان من حارب الله و رسوله بقلمه و لسانه فقد شهر سيفه عليهما، و كذا اذا خطب أو كتب علي خلاف أصول الاسلام و معارف القرآن و أحكام الله تعالي، و بارز

المسلمين بنشر مقالات ضالة، أو إلقاء خطابات مضلّة، فهو أيضا محارب لله و رسوله، فعليه الحدّ بما عرفت من القتل أو الصلب أو النفي من البلد مما يراه الحاكم مصلحة في حدّ عمله. نعم اذا تاب المحارب فندم عمّا فعل و غرم ما أضرّ، فالله غفور رحيم، و لا يجري عليه الحد اذا كانت توبته قبل القدرة عليه إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

حدّ السارق

الرابعة: قوله تعالي:

وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* فَمَنْ تٰابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللّٰهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. (المائدة [5] الآية 38 و 39)

تأمر الآية الكريمة إيجابا بقطع يد السارق و السارقة، فان ذلك جزاؤهما في الدنيا بما كسبا، نكالا عليهم من الله العزيز الحكيم. و الموضوع لا يصدق عرفا إلّا في سرقة ما كان له قيمة يعتني بها، و كان محفوظا مقفولا عليه عرفا، دون غير المضبوط

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 307

المطروح. و أما حدّ الحكم حيث لم يذكر فيه بيان و تفصيل، و يصحّ الاطلاق لغة علي قطع اليد من الكتف، كما يطلق علي قطعها من كل من العضد و المرفق و الساعد و الزند و الكف و الأصابع، فانها اسم للمجموع و تطلق علي بعضها أيضا، و لكن بعد اختصاص الراحة من اليد باللّه تعالي في السجود، لما يستند عليها حال السجدة، فهي من المساجد وَ أَنَّ الْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ (الجن [72] الآية 18). فلا بد و أن تقطع من الأصابع، كما استدل بها الامام (عليه السّلام).

و كذلك يكتفي بقطع أصابع يد واحدة للصدق عرفا، و الجمع

بلحاظ السارق و السارقة. و لا نري وجها لقطع الرجل مع التكرار، ثم الحكم بالسجن معه «1»، و لا يقاس بالمحارب، فان قطع اليد اليمني و الرجل اليسري ليصدق من خلاف كان في عرض واحد من التعذيبات التي بيد الحاكم أمرها في تحديد المحارب.

و عندنا خروج سرقة الأب و العبد و الغانم و الشريك من الابن و المولي و الغنيمة و المال المشترك موضوعيّ لا حكميّ، أي ليس بسرقة عرفا، بعد ولاية الأب و تصرّف بعض المالك في البعض من العبد، و تصرّف الغانم في سهمه من الغنيمة، و كذلك الشريك في المال المشترك، كما في كل شبهة، خلافا لما عن صاحب الكنز (رحمه اللّه) من أنه حكمي كما لا يخفي.

و من تاب بعد سرقته و ظلمه فأصلح نفسه بالعزم علي عدم العود، و ردّ مال الغير الي صاحبه، فاللّه غفور رحيم، يقبل التوبة عن عباده من غير فرق بين ثبوته بالإقرار أو الشهادة و البيّنة و عدمه، كما هو ظاهر الآية، إلّا أن السقوط بعد الثبوت لدي الحاكم مشكل، لتناسب الحكم و الموضوع، فان كل مذنب بعد ما رأي

______________________________

(1)- كما عن بعض، فانه لا بأس بالسجن مع التكرار قبل قطع الرجل، و الملاك منعه بعد ما لم يمنعه الحدّ الالهي، و أما عمل الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) المشار إليه في روايات الباب، بعد أنّه لا لسان له فلا يبعد أنه كان علي مصلحة رآها ولاية، فان الأمر بعد حكم الله تعالي علي نظر الحاكم، و تسرية حكم المحارب بعد التكلّف تسرية من موضوع الي آخر.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 308

مقدمات اجراء الحدّ عليه يتوب و يستغفر ربّه، إلّا من خاف

مقام ربه، فان قبلت توبته مطلقا، فأين يكون حفظ مصالح المجتمع و اعتبار الآخرين من المحدودين، و بذلك يخصص الاطلاق، و قبل الثبوت لدي الحاكم يناسب العفو عن الله الغفور الرحيم لمن تاب و أصلح.

حدّ الانحراف في الشهوة الجنسية

اشارة

الانحراف في أعمال الغريزة الجنسية عن طريقتها الطبيعية المشروعة، المفسد للفرد و النسل و المجتمع، المخرّب للجسم و الروح اقتضي المنع عنه الشدة و الاهتمام، فلم يكتف الشرع بالتحريم التكليفي، و انه ذنب يعاقب عليه، كما سيأتي البحث عنه إن شاء الله في كتاب المحرّمات من الجزء الرابع، بل جعل عليه الحد أيضا في كل قسم بحسبه من الانحراف في الرجال و النساء، أو فيهما، أي اللواط و المساحقة و الزنا، و في كل آية يذكرها حسب الأهمية.

حدّ الزنا

الخامسة: قوله تعالي:

الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لٰا تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

(النور [24] الآية 2)

تأمر الآية الكريمة إيجابا بجلد كل من الزانية و الزاني مائة جلدة، و توكّد الأمر بالنهي عن اتخاذ الرأفة و الرحمة في مقام اجراء الحدّ الذي هو من دين الله و شريعة رسوله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و تؤكّده ثانيا بقوله تعالي: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، فان التساهل في اجراء حدود الله تعالي و التسامح في العمل بأوامره تعالي و التناهي عن نواهيه ينشأ من ضعف الايمان و وهنه، كما هو ظاهر، و في النهاية ترشد الآية

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 309

الكريمة الي مصلحة أخري لا بدّ من استيفائها، و هي الغرض الأصيل من تشريع الحدود، و هو دفع المجتمع عن الذنوب و تطهيره عنها، فتحكم بلزوم حضور طائفة من المؤمنين، و ليكن اجراء الحدود بمرأي حتي يعتبروا و يعلموا حكم الله تعالي و حدّه، و انه في حق كل مجرم كذلك.

و المتعلّق معلوم انه الضرب بالسوط

بحيث لم يتجاوز ألمه عن جلده، و ذلك كناية عن التوسيط في الضرب، ليكون متعارفا لا شديدا عن عناد و لا خفيفا عن رحمة، و إلّا فتألّم المضروب لا يختصّ بعروقه المنتشرة في جلده، و الضرب غير الجرح ليكون عدم التجاوز بمعناه.

ثم إنّ ظاهر إطلاق العنوان و الموضوع أن الحكم ثابت لكل زان و زانية محصن و محصنة أو غيرهما، شيخين كانا أو شابين، و لكن تناسب الحكم و الموضوع يخصص الأمر بشاب غير محصن، و يقتضي في غيره الشدّة و لا سيما الشيخ المحصن، و قد فصّلت السنّة الشريفة بحمد الله في باقي الموارد من الرجم مع الجلد أو بدونه، و مع التغريب (النفي) أو بدونه، و عندنا الزائد علي المذكور في كتاب الله كان من مختار النبي (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أو الوليّ (عليه السّلام) بعنوان المصداق: لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الاحزاب [33] الآية 21)، و الحكم ما رآه الحاكم مصلحة علي اختلاف الشروط و المقتضيات كما لا يخفي، كما عرفت في حدّ السرقة بعد قطع اليد اليمني بأصابعه الأربع.

ثم انّ الحدّ المذكور راجع الي الأحرار، و أما ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات اذا أحصنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَي الْمُحْصَنٰاتِ مِنَ الْعَذٰابِ (النساء [4] الآية 25).

و من المعلوم كما ذكرنا من قبل أن المجري لتلك الحدود هم الولاة و الحكّام الشرعيون الذين هم حصون البلاد و أمناء الله علي العباد و بيدهم مجاري الامور.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 310

حدّ السحق

السادسة: قوله تعالي:

وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّٰي يَتَوَفّٰاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.

(النساء

[4] الآية 15)

الآية المباركة تحكم علي اللاتي يأتين بالفاحشة من النساء و ثبتت الفاحشة عليهنّ بشهادة أربعة من الرجال أو ما يقوم مقامها، كما في كتاب الشهادات، و لا تثبت بدونها، فتأمر إيجابا بعد الثبوت بامساكهنّ في البيوت حتي يمتن، و ذلك قريب من السجن المؤبد، و انتخاب البيوت لهنّ دون السجون ظاهر، فان التستّر عليهنّ في مثل الشروط ألزم حتي يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، و سبيل المسجون لذنبه توجيهه الي طريق الخير و السلامة عن الذنب الذي سجن به، فان كانت غير محصنة فتزويجها و تحصينها و خلاصها عن افتقارها الطبيعي علي الطريق المشروع، و ان كانت محصّنة فتوبتها و عفو الحاكم اذا رأي مصلحة.

و ظاهر الفحشاء يعمّ الزنا و السحق إلّا أنه بعد بيان حكم الزنا صريحا- كما عرفت- نستظهر من المقام أن المراد السحق مؤيّدا بالسياق من التأنيث ثم التذكير المختص بالرجال، و بعبارة أخري بعد ذكر الانحراف في الزنا الحاصل بهما، و اللواط بالرجل مع الرجل، فتعود الفاحشة في المقام الي السحق «1»، و بما ذكرنا يناسب السبيل في آخر الآية المباركة ما عرفت في صدرها فلا يلزم النسخ و سائر التكلّفات، و يساعد الحكم الموضوع و إن كان الزنا و الاستمناء و غيرهما … فاحشة أيضا لغة و من وراء ما أحل اللّه و من ابتغاه فهو من العادين «2».

______________________________

(1)- الراجع الي المرأة مع المرأة.

(2)- راجع آيات أول سورة «المؤمنون».

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 311

و الفطرة الحاكمة بجواز استمتاع كل من الرجل و المرأة بالآخر تحكم بالضبط تحفّظا علي النسب الذي هو الغاية المنشودة و الحقيقية عن تلك الغريزة من بقاء النوع و حفظ النسب علي الشرف و الكرامة، و

قد بيّن الشرع ذلك كلّه، و أرشد إليه، فأحلّ النكاح و الزواج، و حرّم الزنا و السفاح.

حدّ اللواط

السابعة: قوله تعالي:

وَ الَّذٰانِ يَأْتِيٰانِهٰا مِنْكُمْ فَآذُوهُمٰا فَإِنْ تٰابٰا وَ أَصْلَحٰا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ تَوّٰاباً رَحِيماً. (النساء [4] الآية 166)

الظاهر ان المراد من الموصول علي صيغة التثنية تذكيرا: الرجلان اللذان ارتكبا الفاحشة القبيحة التي كانت في قوم لوط، و ان كان لغة يعمّ رجلين أو امرأتين أو رجل و امرأة تغليبا أو كناية، إلّا أنه في السياق المذكور قبله حكم امرأتين من الحبس و الامساك في البيت علي ما عرفت مع ملاحظة حكم رجل و امرأة في آية الزنا يختصّ برجلين و فاحشتهما اللواط لاشتراكهما فيها بالالتصاق دون اقتراف كل فاحشة حتي تشمل الاستمناء أيضا.

و علي الحاكم بعد الثبوت إيذاؤهما بما يري مصلحة دون القتل، فانّه لا يعدّ من مراتب الايذاء عرفا، فلا بدّ لقتلهما من دليل آخر، كما في صحاح الروايات علي التفصيل المذكور في محله، و إن تابا و أصلحا أنفسهما فلا تتعرّضوا لهما إنّ الله كان توّابا رحيما، و الظاهر ان ذلك قبل الثبوت لدي الحاكم.

و من المعلوم ان الحدود المذكورة لتلك الانحرافات تكون لغير المكره عليه، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ (البقرة [2] الآية 173) بعد ظهور عناوين الزانية و الزاني و الآتي بالفحشاء في حال الاختيار.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 312

حدّ الرمي

الثامنة: قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ. (النور [24] الآية 4)

تحكم الآية الكريمة وجوبا علي الذين يرمون المحصنات بالفاحشة و يقذفونهنّ، ثم لم يثبتوا ذلك بأربعة شهداء، بأنه يجب جلدهم ثمانين جلدة، و انهم فاسقون، لا تقبل شهادتهم أبدا بارتكابهم الذنب العظيم إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ

الْمُحْصَنٰاتِ الْغٰافِلٰاتِ الْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ (النور [24] الآية 23).

ثم انك بالتأمّل في لسان الآيات و تشديد الحكم تري اهتمام الشرع المقدّس بحيثية المجتمع الاسلامي و عنايته بعلو مقامه و كرامة شرفه، و ان الذنب الصادر عن البعض أحيانا لا بدّ و أن يكون مستورا منكرا لا يعرفه غيره فيتوب بنفسه الي الله تعالي و يستغفره، و ليس لأحد أن يستطلع غيره، و يستظهر زوايا معيشته، و لو اطّلع علي فاحشة من الغير اتفاقا ليس له أن يتفوّه بها عند الآخرين، و عليه التستّر مع منعه و نهيه عنها علي خفاء، كما ليس للمذنب نفسه ذلك حتي لا تشيع الفاحشة، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ (النور [24] الآية 19).

و من المعلوم أن الاطّلاع علي الفحشاء و ترديد ذكرها يستصغر الأمر و يستدرج الي ارتكابها، فتشيع، و يتوسّع نطاق الانحراف، كما هو كذلك في زماننا بأيدي الأجانب «1» و حكّام الجور العاملين و سلطانهم علي مختلف شئون المسلمين الذين يعاندون الدين، و يحاربون الله و رسوله، و ينتحلون الي الاسلام، و يعدون

______________________________

(1)- كان ذلك قبل نجاح الثورة الاسلامية و تحقق الجمهورية الاسلامية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 313

أنفسهم من أسلم المسلمين، عليهم لعنة الله و خذلانه، و قطع الله أيديهم عن البلاد …

و كيف كان، فالقاذف إن أثبت بالشهادة يحدّ المقذوف بحدّه، و إلا فالرامي، و يحكم بفسقه حفظا لكرامة الامة و شرف المجتمع، و حيث قل ما يتمكّن من اثبات مثل هذه الامور بأربعة شهداء، يجتنب عنه فيتوب المذنب في خفاء.

التاسعة: قوله تعالي:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ

لَهُمْ شُهَدٰاءُ إِلّٰا أَنْفُسُهُمْ فَشَهٰادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّٰادِقِينَ وَ الْخٰامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كٰانَ مِنَ الْكٰاذِبِينَ وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذٰابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكٰاذِبِينَ وَ الْخٰامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّٰهِ عَلَيْهٰا إِنْ كٰانَ مِنَ الصّٰادِقِينَ. (النور [24] الآية 6 الي 9)

الآيات المباركات تدلّ أيضا علي أن الأمر في التحفّظ علي سمو الامّة الاسلامية و شرفها، و التستّر علي العيوب و الذنوب علي هذه الشدّة و الأهمية يكون حتي في الأسرة و العائلة، و لا سيما بين الزوج و الزوجة، فليس لأحدهما قذف الآخر بكل ما يتوهّم أو يظنّ، وَ لَوْ لٰا فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِكُمْ مٰا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيمٌ (النور [24] الآية 14 و 15)، فليس للزوج قذف زوجته و رميها بالفحشاء من السحق أو الزنا أو نفي الولد بعنوان إثبات الزنا دون المجمل أو مع احتمال جذب الماء أو الوطء شبهة.

و مع ذلك كلّه، لو قذف فعليه الاثبات بأربعة شهداء، و لها الجرح حتي يتمّ القضاء، و يحكم عليها بالحدّ، و إلّا فان لم يكن للزوج شاهد إلّا نفسه، فعليه اللعان فرارا عن حدّ القذف، بأن يشهد الله علي صدقه أربع مرات، و الخامسة ان لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، و أيّ مؤمن يعترف بالله و اليوم الآخر ثم يشتري لعنة الله

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 314

علي نفسه فرارا عن عذاب قليل في الدنيا، و للزوجة أن تدرأ العذاب و الحدّ بأن تشهد الله علي كذب زوجها

أربع مرات، و الخامسة ان غضب الله عليها إن كان زوجها من الصادقين، و أيّة خاطئة تؤمن بالله و اليوم الآخر تشتري غضب الله لنفسها دفعا لعذاب الدنيا؟

و الحاصل انّه بعد القذف، إن لم يشهد بأربع شهادات و لم يلعن، يحدّ بقذفه ثمانين جلدة، و لا تقبل شهادته، و ان شهد بأربع غير مجروح تحدّ الزوجة حدّها، و أما إن لم يكن له شاهد إلّا نفسه فاللعان بوجه عرفته، فان لاعن الزوج دون الزوجة تحدّ حدّها أيضا، و إن لاعنت أيضا يدرأ عنها العذاب، و لا حدّ علي أحدهما، و لكن كيف يمكن أن يبقيا علي ما كانا عليه من الزوجية بعد تلك المطاردة و الملاعنة، و كيف يتصوّر استقرار الصفاء و الوداد بينهما، و كلّ منهما يكذّب الآخر علي تلك الشدّة في مثل أمر هو أساس مسألة الزوجية، فكأنه بنفس تلك المطاردة تنقطع عنهما العلاقة الزوجية من دون طلاق و لا حكم حاكم، كما صرّحت به السنّة المباركة، و لم يذكر في الآيات ما يعطي ذلك، و لكن يستظهر منها حسب الاعتبار اعتمادا علي السنّة الشريفة، و لولاها ما تجرأنا، و لقلنا بلزوم الطلاق أيضا، كما لا يبعد احتياطا، كما ان الاعتبار يقتضي الحرمة الأبدية، و السنّة المباركة بحمد اللّه قد بيّنت الأمر.

و أنت تعلم أن الآيات بسياقها راجعة الي قذف المرء زوجته بالزنا و لو بنفيه الولد، اذا أراد به ذلك. و أما نفيه مع احتمال جذب الماء أو الوطء بشبهة فالظاهر انصراف الآيات عنه، و لا لعان، كما ان الظاهر انصراف اطلاق كلمات الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) الي ذلك، أي إرادة الزنا من نفي الولد، فلا يتمّ ما ذكروه مطلقا.

و أما ذكرهم

اللعان عقيب الطلاق و الظهار بلحاظ الأثر، أي الانفصال بلا طلاق فلا يخلو عن شي ء فان ذلك ممّا يترتب عليه، و هو من لواحق الرمي و توابع الحدود، كما عرفت و الحمد للّه ربّ العالمين.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 315

خلاصة البحث

الأول: من قتل نفسا خطأ، فعليه تحرير رقبة مؤمنة كفّارة للقتل، و عليه أيضا أداء الدية الي ورثة المقتول أداء لحقهم.

الثاني: لا دية فيما اذا كان المقتول مؤمنا و قد قتل خطأ و انه من قوم عدوّ للمسلمين أي من الكفّار و المشركين، فيكفي عندئذ تحرير رقبة كفارة له، فان اداء الدية الي غير المسلم لا وجه له.

الثالث: الدية هذه علي العاقلة من أقرباء القاتل، و عليه الكفّارة.

الرابع: من لم يجد رقبة للتحرير أو مالا للدية فعليه صيام شهرين متتابعين.

الخامس: من حارب الله و رسوله أي حارب و ناهض دين الله و شريعته، يقتل بحكم الحاكم الشرعي أو يصلب أو تقطع يده و رجله من خلاف و يترك حتي يموت «1»، أو ينفي من الأرض علي اختلاف مراتب محاربته سواء كانت بواسطة السيف أو الرمح أو البندقية أو المتفجّرات من الآلات الحربية النارية أو بواسطة القلم أو الخطابة أو الاذاعة أو النشر أو غيرها مع صدق المحاربة «2»، كل ذلك قبل توبته.

السادس: السارق و السارقة لمال مضبوط تقطع يداهما اليمني من الأصابع، و مع التكرار بعده فباختيار الحاكم في أن تقطع رجله أو يسجن أو يقتل.

السابع: لا حدّ في سرقة الأب من ابنه و العبد من مولاه و الغانم من مال الغنيمة و الشريك من شريكه فانه ليس بسرقة موضوعا.

الثامن: الزاني و الزانية بعد ثبوت زناهما يجلد كل واحد منهما مائة جلدة اذا كان الزاني

شابّا عزبا، و في المحصن الرجم مع الجلد أو بدونه، و مع التعذيب أو بدونه علي ضوء السنّة الشريفة، وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ بفاحشة المساحقة فلا بدّ من حبسهنّ

______________________________

(1)- من المعلوم ان الصّلب و قطع اليد و الرجل من خلاف قسيم القتل و ليس يراد بهما القتل سواء انتهي الي موته أو لا، و لذلك لا بدّ من فكه من الصلب بعد ثلاثة أيام و تركه لو كان حيا و كذلك القطع.

(2)- كما إذ كان من منظمة محاربة مثل منظمة المنافقين المحاربة لنظام الجمهورية الاسلامية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 316

و إمساكهنّ في البيوت حتي يمتن أو يتزوّجن حتي يحصن حسبما يراه الحاكم صلاحا. و اللذان يأتيان بفاحشة اللواط، علي الحاكم ايذاؤهما و تعزيرهما و ما يراه مصلحة الي القتل عند اجتماع الشرائط علي ضوء السنّة.

التاسع: الذين يرمون المحصنات المؤمنات الغافلات بفاحشة الزنا ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجب أن يجلدوا ثمانين جلدة و لا تقبل شهادتهم أبدا لفسقهم هذا.

العاشر: من رمي زوجته بالزنا و لو بنفي الولد بقصده دون احتمال جذب الماء أو الوطي بشبهة فان أثبت ذلك لدي الحاكم بأربعة شهداء تحدّ زوجته حدّها و إلّا فعليه اللعان و حدّ حدّ القذف، و ان لاعن يدرأ عنه ذلك. و للزوجة أن تلاعن دفعا للحدّ عليها، فان لاعنت ينفصل كل عن الآخر من غير طلاق اعتبارا من الكتاب العزيز و تحريما أبدا أيضا علي ضوء السنّة المباركة في المقام.

الحادي عشر: إجراء حدود اللّه تعالي بين عباده بيد وليّه الامام المعصوم (عليه السّلام) أو من ينوب عنه نيابة خاصة أو عامة من الفقهاء الذين بيدهم مجاري الامور، و علي العدول بل المسلمين كفاية حال قبض اليد لئلا

تتعطل حدود اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 317

كتاب القصاص

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 319

القصاص

القصاص علي وزن فعال من قصّ أي تتبّع الأمر و الخبر، ثم استعمل في تتبّعه الجرح و الدم، و يترتب عليه من المعاملة بالمثل من القتل و القطع و في جبر كل ضرر حتي في قصاص المال و تقاصّه.

و من المعلوم انّه لو لم يجازي الظالم في المجتمع فستنفعل الامّة بالظلم شيئا فشيئا حتي تضعف و تذلّ بتسلّط الجائر الظالم فتموت. و بالمجازاة المتناسبة يتعادل المجتمع و يحتفظ بحياته فتحيا الأمّة به و تقوم علي صلبه. و ذلك معني قوله تعالي:

وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ. (البقرة [2] الآية 179)

كيفية القصاص

و في الكتاب آيات:

الأولي: قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصٰاصُ فِي الْقَتْليٰ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثيٰ بِالْأُنْثيٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّبٰاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدٰاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسٰانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَديٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.

(البقرة [2] الآية 178)

الآية المباركة توجب أصل القصاص علي لسان ايجاب الأركان و الأعمدة «1»،

______________________________

(1)- قال تعالي: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (البقرة [2] 183)، و قال: إِنَّ الصَّلٰاةَ كٰانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً (النساء [4] 103).

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 320

فان الكتابة كناية أبلغ من الأمر و الايجاب، و المعني أن ذلك مقضي محتوم مكتوب من قبل لا يختلّ بشي ء.

ثم بعد بيان استحكام ذلك المشروع علي الاجمال تفصّل الأمر بأنّه لا بدّ من مراعاة التعادل في القتلي علي الكمال: الحرّ بالحرّ، و العبد بالعبد، و الأنثي بالأنثي، و الذكر بالذكر، بل و الحرّ بالعبد، و الذكر بالأنثي، بمعني عدم الفرق و نفي الامتياز بين النفوس، فكلّ من

قتل نفسا بغير حقّ يقتل قصاصا سواء كان القاتل حرا أو عبدا ذكرا أو أنثي، و كذلك المقتول فان النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، و المسلمون تتكافأ دماؤهم، و ذكر المذكورات ردّ علي التفاضل المتوهّم الذي لا مفهوم له.

و من المعلوم ان ذلك في مجتمع المسلمين و عدم وجود التفاضل بينهم، امّا التفاضل بالاسلام علي الكفر فهو أمر يحقّق علي التفصيل في محله و لا بدّ من التساوي في الدين من الاسلام و غيره.

كذلك نستظهر من الآية الكريمة و نفهم أنّها بصدد بيان المساواة بين النفوس البشرية، علي خلاف ما ذكره الأصحاب (رضوان اللّه تعالي عليهم) من عدم القصاص عند الاختلاف بالحرية فقط، و انه لا يقتل الحرّ بالعبد مع قولهم بقتل الذكر بالأنثي، و السياق واحد، فلزمهم توجيهات بعيدة حتي خرجت الآية المباركة عن مفهومها مع صراحتها في التشريع، و أنّها في مقامه، و أضعفها تخصيص الآية بواقعة خاصة من موردها، و أشدّ ضعفا النسخ بقوله تعالي: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ … كما أشار إليها صاحب الكنز (رحمه اللّه) مع انه لا يتم البحث أيضا في الحرّ و العبد كما لا يتمّ جواب صاحب الكنز أيضا من أن الناسخ مكتوب في التوراة فلا يكون ناسخا، فان لسان النقل يعلن بيان المشروع الباقي في الاسلام أيضا و نقل في القرآن بذلك الملاك.

و لا ينافي ما استظهرناه لزوم ردّ نصف الدية بعد قتل الرجل القاتل للمرأة الي وليّ المقتول قصاصا، كما لا ينافي عدم قصاص رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) من المولي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 321

الذي قتل عبده، فان لوليّ الدم العفو كما سيأتي، و هو (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) بنفسه وليّه، بل

لا ينافي في الحكم بعدم قتل الحرّ بالعبد مطلقا بالسنّة القطعية، و إن بعد ذلك مع اعتياد المولي.

و يؤيد ما ذكرنا قوله (عليه السّلام): «لا يقتل حرّ بعبد، و لكن يضرب ضربا شديدا و يغرم ثمنه دية العبد» (الكافي ج 7 ص 304 ح 1) بعد قراءة أبي بصير لأحدهما (عليهما السّلام) قول اللّه (عزّ و جلّ): كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصٰاصُ فِي الْقَتْليٰ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثيٰ بِالْأُنْثيٰ فانه لو كان ظاهر الآية كما ذكروه لم يكن الي البيان افتقار، فانه بنفسه مفاد الآية و توضيح الواضح لا يناسب الامام (عليه السّلام). فهو لبيان تخصيص المفاد بغير الحرّ و العبد، و تعيين الدية فيهما، اذا كان القاتل حرّا فيضرب علي حدّ من الشدّة يمنعه عن ذلك إن كان مولاه، فان ديته من ماله، و هو أتلفه و يغرم إن كان غيره دية بدل القصاص، و ذلك لا يفيد الاطلاق حتي مع الاعتياد و عدم المنع.

و الحاصل انّه لا بدّ من حفظ ظهور الآية في جميع الفقرات و التخصيص في الحرّ القاتل للعبد بالدية دون القصاص من طرفي الحكم بالسنّة القطعية، فتأمّل.

و مع ذلك كلّه: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً … (الأسراء [17] الآية 33) فله أن يقتصّ من القاتل، كما له أن يعفو عنه، و لكن من عفي له من أخيه المؤمن الذي هو وليّ دم المقتول، فعليه الاتباع بالمعروف و الإحسان الي ورثته باداء المتعارف دية و غرامة، دون أن يأخذ نفسه معفوا مجانا و بلا عوض، و ذلك الخيار بين القصاص و الغرامة المجعول لوليّ الدم تخفيف و رحمة من اللّه عليكم، و من اعتدي بعد ذلك فله

عذاب أليم. و ظاهر ذلك عدم لزوم نظارة وليّ المسلمين و امامهم عليه، خلافا لما جاء عن الطبرسي في المجمع و الشيخ في المبسوط و العلّامة في القواعد، مع عدم اشتراط الآخرين في سائر كتبهم. نعم يمكن القول بذلك حفظا لنظام الأمّة و منعا عن الهرج و المرج.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 322

المقابلة بالمثل أو العفو

الثانية: قوله تعالي:

وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصٰاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّٰارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ. (المائدة [5] الآية 45)

تحكي الآية الكريمة حكم القصاص المكتوب في التوراة التي فيها هدي و نور و التي يحكم بها النبيّون الذين أسلموا في القتلي بأن النَّفْسَ بِالنَّفْسِ مطلقا من غير تفصيل فيها بين المزايا المتوهّمة من الرئاسة و الشرف و غيرهما، و في الأعضاء العين بالعين واحدا و متعددا، و الأنف بالأنف، و الأذن بالأذن، و السنّ بالسنّ مع مراعاة العدد، و كذلك الجروح فيها قصاص مع مراعاة المقدار، و من تصدّق به فهو كفّارة له.

و كذلك من عفي عنه من أداء الكفارة و الدية أو بدونه، فان العفو و التكفير في الجروح بل في القتلي مع عدم اعتداء من ظلم أولا بأداء المعروف و الاحسان و التصدّق أي الدية يوجب الرأفة و الرحمة بين الأفراد، و تقارب بعضهم مع بعض، و تعزيز علاقاتهم بالامتنان من بعض علي بعض، كما أشارت إليه الآية المباركة السابقة. و لذلك كانت الدية علي العاقلة أي أقربائه كما في السنّة الشريفة، كما ان القصاص يوجب تنبّه و ردع الظالم و منعه عن الاعتداء و تقليل

الفساد، فالحياة.

فقد روعي في المشروع- كما تري- جميع الجوانب و الأطراف، و الآية بقيودها في الصدر تكون بيانا للمشروع لا نقلا و حكاية فقط، و إن شئت قلت إنشاء بلسان الإخبار أو استصحاب لما ثبت.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 323

الكيفية و الزمان في القصاص

الثالثة: قوله تعالي:

الشَّهْرُ الْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ الْحَرٰامِ وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.

(البقرة [2] الآية 194)

الآية المباركة كما تري خلال آيات الجهاد و مقاتلة أعداء الدين تراها تتعرّض بالمناسبة لمسألة القصاص فيما اذا اعتدي الخصم و لم يراع حرمة الشهر الحرام، فيجوز القتال فيه (الشهر بالشهر)، ثم تقضي علي الأمر ببيان قاعدة كلية تستغرق كل مقام، و هي عندنا من أعرق الأسس التي تحفظ بها الأمة و استقلالها بل كيانها ثم رقيّها و تكاملها في كل عصر و زمان، و هي عدم الاستسلام مقابل أيّ ظلم و اعتداء، و لزوم مكافحة الظالم و مواجهة المعتدي و مدافعته، حتي يرتدع. و ما يفعل في طريق ذلك عقلائيا حق و عدل يستحقه كل ذي حياة و رمق، فكيف بانسان و أمّة اسلامية، و هي خير أمّة أخرجت للناس، و ليس ذلك باعتداء، و انما أطلق عليه للمقابلة، و القاعدة العريقة الواسعة قوله تعالي: فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ ردّا عليه و منعا لاعتدائه من غير نقيصة، حتي يكون انطلاقا و قبولا للاعتداء و لو في الجملة و من غير زيادة، لئلا يكون اعتداء عليه فيها، فاتقوا الله تعالي من الاعتداء بالزيادة باسم القصاص و التقابل، و اعلموا أن الله مع المتقين الذين لا يعتدون و لا يتحمّلون الاعتداء، فان

جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا «1»، وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ «2»، و بذلك يتحقق المطلوب و الغرض الأصلي من القصاص و هو العدل الاجتماعي الساري في تمام شئون الأمة و مختلف جوانبها.

______________________________

(1)- الشوري [42] الآية 40.

(2)- النحل [16] الآية 126.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 324

و كل أمة لم تتعرّض لذلك، و لم تلتزم به (القصاص)، فهي مظلومة محكوم عليها، مسروقة حقوقها المشروعة علنا و علي رءوس الأشهاد- كما مرّ- «1».

القتل بلا قصاص

الرابعة: قوله تعالي:

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَليٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ النّٰاسَ جَمِيعاً … (المائدة [5] الآية 32)

الآية المباركة- كما تري- جاءت بعد بيان نبأ ابني آدم إذ قرّبا قربانا (القصة)، و قبل بيان حدّ المحارب المفسد في الأرض، فتقصّ أنّه مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَليٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ تشريعيا ان من قتل نفسا بغير نفس فهو في العصيان و الذنب كمن قتل الناس جميعا، دون ما اذا كان بنفس، بأن قتل قاتلا، فلا بأس؛ لأن ذلك حق مشروع فالتقيّد يفيد المطلوب مع ما في الآيات السابقة من الكفاية، فان نقل مثل ذلك في مثل السياق لا يساعد بيان حكم التقصيص إلّا تبعا بالاشارة إليه علي وجه التسلّم و الفراغ كما هو ظاهر.

و من المعلوم أن ظاهر الآيات اختصاص الحكم بالعامد دون الخاطئ كما سيأتي التصريح به في موضوع الحدود إن شاء الله، و العمد دائر مدار الصدق العرفي حسب الآلة و القصد و المباشرة و غيرها.

______________________________

(1)- قد أشرنا إليه في كتاب الجهاد.-

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 325

خلاصة البحث

1- من قتل نفسا متعمدا بغير نفس يقتل نفسا بنفس.

2- لو قتل رجل امرأة يقتل و يردّ نصف الدية الي ورثة المقتول قصاصا.

3- وليّ دم المقتول ظلما له السلطة علي نفس القاتل إن شاء قتله قصاصا، و إن شاء عفا عنه من غير أخذ شي ء، أو معه دية بالمتعارف، و علي المعفوّ عنه اداء شي ء إحسانا من غير أخذ نفسه مجانا.

4- إن القصاص في الأطراف (الأعضاء) العين بالعين و الأذن بالأذن و الأنف بالأنف و هكذا و الجروح قصاص.

5- يجوز التصدّق علي من عليه القصاص في النفس و

الطرف و الجرح بالعفو ممن له ذلك و هو الوليّ في النفس، و نفسه في الأطراف و الجروح.

6- لا بدّ من دفع كل ظالم بعين ما ظلم، جزاء سيئة سيئة مثلها، فَمَنِ اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَديٰ عَلَيْكُمْ.

الي هنا تمّ كتاب القصاص و يتلوه كتاب القضاء و الشهادات إن شاء اللّه تعالي.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 327

كتاب القضاء و الشهادات

اشارة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 329

القضاء و الشهادات

المقدمة:

من المعلوم ان الانسان بما هو اجتماعي مدني يحتاج بطبعه الي أخذ و عطاء، و الي بيع و شراء، أو بالأحري فهو يحتاج الي تبادل و تعامل في أمواله و ثرواته بينه و بين بني نوعه، فهو يفتقر الي محاكم قضائية شرعية لحفظ الحدود و الحقوق و فصل الخصومات، و يرفع بها ما يبدو له من مشاحنات و مشاجرات … و بهذا تعتدل حياته و حياة غيره.

فالحاكم أو الحكم هو محور و مدار المحكمة القضائية و الحكم أيضا حيث ان حكومته و حكمه قسم من الولاية و جزء من الحكومة العامة، و بهذا تتوقف علي وجوده الحياة الاجتماعية سواء كان في المجتمعات الاسلامية أو غير الاسلامية و بأية صورة و كيفية كانت. و الاسلام الحنيف الذي هو آخر شريعة سماوية سمحاء الي يوم القيامة قد أمضي أصوله الكلية، و ردع عن الانحراف عنه، و هو محفوظ بحفظ اللّه عن أيّ انحراف و اعوجاج: إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلٰامُ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 330

الفصل الأول: الحكم بالعدل

ما يرتبط بالحكم، و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِليٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّٰهَ نِعِمّٰا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ سَمِيعاً بَصِيراً.

(النساء [4] الآية 58)

تخبر الآية الكريمة عن أمر الله تعالي و حكمه بأمرين لكل منهما أثر خطير في حياة المجتمع:

الأول: أداء الامانات الي أهلها، و هذا موجب لتحكيم روابط الأفراد بعضهم مع بعض و توثيق الاعتماد بينهم بأقوي مراتبه الذي هو من أهم أركان الحياة و أهنئها.

الثاني: الحكم بالعدل في المحاكم عند فصل الخصومات حتي يري و يلمس كل فرد ان حقه

مصون محفوظ.

ثم توصي الآية المباركة برعاية هذين الأمرين و الاتعاظ بهما نعم الوعظ، يعظكم اللّه به إنّه هو السميع لحكمكم بالعدل أو الظلم، و هو البصير العليم بردّ الامانات الي أهلها. و من المعلوم ان إفادة الوجوب بالاخبار أصرح من الأمر.

الثانية- قوله تعالي:

إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ وَ لٰا تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً. (النساء [4] الآية 105)

تفيد الآية المباركة انّ من علل نزول الكتاب و الفرقان هو الحكم بين الناس بالحق و العدل مما بيّنه الله تعالي مرارا لنبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و أراه، لا ما تعارف عند بعض

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 331

الناس و عند المحاكم التي لا تحكم بما أنزل اللّه و لا سيّما في الدول التي تدّعي الاسلام، و الاسلام منهم براء، فهي تبتني محاكمها علي قوانين متهافتة أكثرها قائمة علي أمور باطلة و ظلم و خلاف كالتمييز بين الناس، و التحقير لفئة منهم دون فئة، لا لعلّة شرعية عقلائية بل لخصومات قومية نفسانية فردية و جماعية، و هذا ما ينافي الاصول و الحقوق الانسانية، و الشرائع الربانية، فلا بدّ إذن من أن يكون الحكم بالحق و العدل أي بما أنزل اللّه تعالي علي نبيه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم).

الثالثة- قوله تعالي:

… سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْرٰاةُ فِيهٰا حُكْمُ اللّٰهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ مٰا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. (المائدة [5] الآية 42- 43)

الآيتان المباركتان توحيان بأن اللّه تعالي قد خيّر نبيّه

(صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في أن يقبل التحكيم و يتصدّي للحكم بين أهل الكتاب إذا جاءوا و رجعوا إليه، أو أن يعرض عنهم من غير أن يضرّه شي ء من ناحيتهم حتي يرعي جانبهم في القبول. نعم إن اختار الحكم، لا بدّ و أن يحكم بالقسط بينهم، فان اللّه يحبّ المقسطين، فان أعرضوا و تولّوا عن حكم اللّه فالحق موجود في كتابهم الذي يجعلونه وراء ظهورهم، فكيف بهم إذا حكمت بينهم بما لديك من القرآن الحكيم و بما أراك اللّه تعالي فيه من الحكم و فصل الخصومات.

و قوم هذه شيمتهم ما هم بمؤمنين، كيف إذن يحكّمونك و يرضون برأيك، و هو الحقّ و العدل، و عندهم كتابهم الذي فيه حكم اللّه، أو ما أراك اللّه في كتابك، ثم يتولّون و يعرضون، و كيف ما كان، عليك الحكم بالعدل فيهم.

فاذا أمر اللّه تعالي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) أن يحكم بين أهل الكتاب بالقسط، فالحكم بالقسط بين المسلمين أوضح و أوجب، فعلي كل حاكم إذن أن يحكم بين الناس

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 332

بالقسط و لا سيما حكّام المسلمين فيما بينهم.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النّٰاسِ لَفٰاسِقُونَ. (المائدة [5] الآية 49)

قد أمر اللّه تعالي نبيّه في هذه الآية المباركة بالحكم بين الناس بالحقّ، و بما أنزل اللّه، و التحرّز عن اتّباع أهواء أهل الكتاب، و مراعاة ميولهم جذبا لهم الي الدين، و الاحتراز عن افتتان الناس في جانب الحق

بالتظاهر الموجب للانحراف عن العدل في الحكم، ثم ان ذلك من مهام آثار الرسالة و أعظم أغراض الهداية، فان الحكم بالحق و بما أنزل اللّه من أقوي أركان حياة المجتمع الانساني، و أبقي و أدوم لحياة الانسان علي الصفاء و الهناء، بحيث كلّما انحرفت أحكام المحاكم و قضاء القضاة عن القسط و العدل بأيّ سبب كان، كتنفيذ رغبات و طلبات ذوي الثروات و الأموال أو الخوف من ذوي السلطة و المناصب، انحرف بنسبته استقلال الحاكم و المحكمة، فتنحرف عندئذ الحياة الانسانية و العدالة الاجتماعية عن المجري الحقيقي، و تضيق المعيشة بأهلها كما هو في أكثر البلاد و الأقطار الشرقية و الغربية، حيث صارت المحاكم وسيلة في أيدي السلطات الحاكمة، و آلة للمكر و الحيلة و التظاهر بالمشروعية في العزل و النصب، و في الاعدام و السّجن و الإقصاء و سائر الجنايات الاخري بأنها مشروعة قانونية، بينما الشرع و القانون منها براء، أعاذنا اللّه من شرور أنفسنا و فتن الزمان.

فان تولّي القضاة عن الحق و العدل، و حكموا بغير ما أنزل اللّه، فانه سيصيبهم ببعض ذنوبهم، و ان أكثر الناس لفاسقون، و قد حكم شريح القاضي (لعنه اللّه) بما حكمت نفسه و قريحته، و ضلّ من ضلّ بواسطته و وقع ما وقع.

و الحاصل: ان الآية الكريمة تفيد وجوب الحكم بما أنزل اللّه من الحق

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 333

و العدل، و التحرّز عن افتتان الناس، لئلا يشتبه الأمر، فيحكم باسم العدل ظلما، و بصورة الحق باطلا، فتضلّ الناس و تنحرف- أعاذنا اللّه من شرور النفس.

و الظاهر: إن الاطلاق في قوله تعالي: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أو: بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ مع قوله تعالي: وَ عِنْدَهُمُ التَّوْرٰاةُ فِيهٰا حُكْمُ

اللّٰهِ يفيد جواز حكم الحاكم الاسلامي بين أهل الكتاب بكتابهم، أو بما في الاسلام، و كلاهما قسط و عدل، و حكم بما أنزل اللّه، بعد ملاحظة عدم نفوذ التحريف الوارد في كتبهم في الحكم، و ان لم يساعد ذلك بعض الجزئيات في قضاء الاسلام. و إذا كانت التوراة فيها حكم اللّه تعالي، فكذلك الإنجيل لصراحة القرآن الكريم في تساوي الحكم و الحاكم في الكتب السماوية، قال تعالي: إِنّٰا أَنْزَلْنَا التَّوْرٰاةَ فِيهٰا هُديً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هٰادُوا وَ الرَّبّٰانِيُّونَ وَ الْأَحْبٰارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتٰابِ اللّٰهِ وَ كٰانُوا عَلَيْهِ شُهَدٰاءَ فَلٰا تَخْشَوُا النّٰاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لٰا تَشْتَرُوا بِآيٰاتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ* وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ … (الي قوله تعالي): وَ قَفَّيْنٰا عَليٰ آثٰارِهِمْ بِعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرٰاةِ وَ آتَيْنٰاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُديً وَ نُورٌ … وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ* وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ …

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ … (المائدة [5] الآيات 44- 48) «1»

و يستفاد من الآيات المباركة أن ما أنزل اللّه تعالي الي موسي و عيسي و نبيّنا محمد (عليه و علي آله و عليهم الصلاة و السلام) في كتبهم إنما هو نور و هدي ليحكموا به و هو الحكم بما أنزل اللّه مع صراحة تساوي بعض الحدود في كتبهم مثل: إن النَّفْسَ بِالنَّفْسِ،، فلا إشكال في جواز الحكم لأهل الكتاب بكتابهم.

______________________________

(1)- و الي ذلك يشير أيضا قوله تعالي: كٰانَ النّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً

فَبَعَثَ اللّٰهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ … (البقرة [5] الآية 213)، و ان كان ظاهر مورد الاختلاف غير المبحوث عنه لكن الاطلاق يشمله.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 334

الفصل الثاني: من هو الحاكم؟

ما يتعلّق بالحاكم و أنّه من هو؟ و فيه آيات:

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا. (النساء [4] الآية 59)

تخاطب الآية الكريمة المؤمنين و تأمرهم بإطاعة اللّه و إطاعة رسوله و أولي الأمر، ثم تأمرهم بردّ المنازعات الي اللّه و رسوله، و ذلك خير لهم و أحسن تأويلا، و أكّدت بأن ذلك مقتضي الايمان و إن كان الحق عليهم، ذلك إن كانوا مؤمنين.

لا إشكال في دلالة الآية المباركة علي وجوب إطاعة اللّه تعالي إرشادا الي ما أفاده العقل، فلا بدّ من اتّباع أوامره تعالي من الصوم و الصلاة و غيرهما و النهي عن نواهيه، كما لا إشكال في دلالتها علي وجوب إطاعة الرسول أيضا علي نسق إطاعة اللّه تعالي، فلا بدّ من اتباع أوامره (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في الموضوعات و تطبيق العناوين الكلية علي المصاديق العرفية و تعيين الأوقات الشرعية و الأشخاص و نصب أمير و عزله، أو اختيار إمام و تعيينه، و أخذ الوجوه الشرعية (الزكوات و غيرها) و صرفها في مصارفها، و في كل ما يرجع الي الحاكم الشرعي في المجتمعات و الأمم، و كذلك الأمر في أولي الأمر فان ذلك معني صاحبي الأمر و زعامة الأمة فهم الذين بتنصيب النبي

(صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و تعيينه يتولّون هذا المقام الإلهي العلوي، فيجب عندئذ إطاعتهم فيما يجب إطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و هم الأئمة المعصومون المهديّون الاثنا عشر (عليهم الصلاة و السلام)، قال تعالي:

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 335

مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. (الحشر [59] الآية 7)

و قال رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم):

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي … ».

و الحاصل: إن ما يأتي به الرسول الكريم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و يحكم به يكون علي نوعين:

1) بما هو رسول من اللّه تعالي الي عباده فينبئ عنه تعالي و يحكي أحكامه لعباده و يبلّغها لهم، و ما علي الرسول إلّا البلاغ المبين، و إطاعته في المقام إطاعة اللّه تعالي.

2) بما هو وليّ و أمير من قبل اللّه تعالي علي عباده فيأمرهم و ينهاهم بما هو حاكم و وليّ و إطاعته حينئذ إطاعة اللّه تعالي.

فله (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) مقامان: مقام الرسالة، و مقام الإمامة، يشير الي الأول قوله تعالي: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَي الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ … (الفتح [48] الآية 29)، و قوله تعالي: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اللّٰهِ وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كٰانَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (الأحزاب [33] الآية 6)، و قوله تعالي:

وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَي اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلٰالًا مُبِيناً (الأحزاب [33] الآية 36)، و غيرهما من الآيات.

و كما

يجب إطاعة الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) في مقام رسالته الراجعة الي إطاعة اللّه تعالي، كذلك يجب إطاعته في مقام إمارته و حكومته و قضائه. و كما أن عصيان اللّه تعالي ضلال، فكذلك عصيان الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ضلال أيضا، و كما هو معلوم ان الرسالة تقبل الختام دون الزعامة و الامامة كما فصّلناه في مقامه و في كتاب الولاية و الحكومة.

فالآية الكريمة تدلّ بأوّلها علي لزوم قبول قضاء اللّه تعالي و رسوله و حكمهما مطلقا، و تدلّ بآخرها- علي سبيل ذكر الخاص بعد العام- و تصرّح بلزوم إرجاع

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 336

المنازعات الي اللّه تعالي و رسوله الكريم (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم). و ليس لغيرهما تصدّي القضاء و رفع الخصومات، فلا يجوز الرجوع الي غيرهما كالطاغوت مثلا و قد أمروا أن يكفروا به، و ذلك مقتضي الايمان: فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

الثانية- قوله تعالي:

أَ لَمْ تَرَ إِلَي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَي الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً. (النساء [4] الآية 60)

تنبئ الآية الكريمة عن تفكير الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اللّه تعالي الي أنبيائه مع أنهم يتحاكمون الي الطاغوت و يرجعون الي حكّام الجور و قضاة الظلم و قد أمروا أن يكفروا بهم فكيف يكونوا مؤمنين بالحق و بما أنزل اللّه علي رسله (عليهم السّلام) و هو الكفر بالطاغوت؟ إلّا أن الشيطان يريد أن يضلّهم و

يبعدهم عن الحق، فان الذين يرضون بقضاء الجور و يقبلون حكم الظلم، يتباعدون بالتدريج عن العدل الي حد إِذٰا قِيلَ لَهُمْ: تَعٰالَوْا إِليٰ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ من القسط في الحكم و الي الرسول الحاكم بينكم بما أراه اللّه تعالي من الحق يتولّون و يصدّون عن سبيل اللّه، فيجعلون أنفسهم وراءه فان أصيبوا بظلمهم هذا يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ إِنْ أَرَدْنٰا إِلّٰا إِحْسٰاناً وَ تَوْفِيقاً، أُولٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّٰهُ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً.

فالآية الكريمة- كما تراها- في سياقها تدلّ علي أن الحاكم هو اللّه تعالي و رسوله فقط دون الطغاة الذين يتجاوزون حدود اللّه تعالي و أحكامه من الجبابرة و الظلمة و قد أمر اللّه تعالي عباده أن يكفروا بهم و يستروا عليهم حتي يزولوا فيعدموا و يطهّر المجتمع من دنسهم كما هم معدمون في نظام التكوين بإرادة اللّه تعالي و حكمه إن شاء اللّه.

وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ الصّٰالِحُونَ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 337

و من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون، الفاسقون، الكافرون، كما يدلّ علي المطلوب إطلاق قوله تعالي: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَي اللّٰهِ … (الشوري [42] الآية 10)، و إطلاق النهي عن إطاعة المفسدين في قوله تعالي: وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.

(الشعراء [26] الآية 151 و 152)

الثالثة- قوله تعالي:

فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰي يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. (النساء [4] الآية 65)

الآية الكريمة بعد ما صرّح قبلها بلزوم إطاعة الرسول بوجه مطلق في قوله

تعالي: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلّٰا لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اللّٰهِ تؤكّد مع القسم بأن الذين آمنوا لم يؤمنوا كمال الايمان حتي يحكّموك فيما شجر بينهم و يرجعوا أليك في منازعاتهم دون غيرك، فان الذي لا يحكم إلّا بالحق هو أنت، فانك رسول أمين، و غيرك طاغوت متجاوز لحدود اللّه مراع لميوله، مفتتن بفتن الناس، و كذلك لم يتم ايمانهم حتي يرضوا بما حكمت لهم مما أراك اللّه تعالي و أنزل أليك، و لم يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت لهم أو عليهم علي أساس القسط و العدل، و يسلّموا تسليما كاملا.

و البيان آكد ما يمكن تثبيت الأمر به و ان الحاكم هو الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) الحاكم بحكم اللّه تعالي فقط، و كذلك من يحكم بحكم الرسول (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) ممّن تولّي بأمره (عليهم الصلاة و السلام) و نوّابهم و وكلاؤهم (رضوان اللّه عليهم)، و ليس للمؤمنين الرجوع الي غيرهم و لا لغيرهم للحكم بينهم، فانهم (الحكام الشرعيون) لا يحكمون إلّا بما أنزل اللّه، و غيرهم يحكم بغيره و لو أحيانا، و من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون، الفاسقون، الكافرون، علي اختلاف المراتب.

الرابعة- قوله تعالي:

… وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 338

و في الاخري … هُمُ الظّٰالِمُونَ، و في الثالثة: … هُمُ الْفٰاسِقُونَ.

(المائدة [5] الآيات 44 و 45 و 47)

صراحة الآيات الكريمة في تعيين الحاكم و تعريفه أنّه هو الذي لا يقضي إلّا بقضاء اللّه تعالي، و أمره و حكمه قسط و عدل أنزلهما اللّه تعالي علي نبيّه (صلّي اللّه عليه و آله و سلّم) و

أراهما إيّاه، فمن لم يحكم بما أنزل اللّه أي حكم بغيره- لا من لم يحكم بذلك أصلا- فقد اقترف ذنبا و ارتكب إثما مبينا، و بذلك فقد ظلم نفسه و فسق عن أمر ربّه، بل انه بتستّره هذا علي الحق قد كفر باللّه العادل الخبير العليم بالحق و بما جاء من عنده و بما حكم به و بكل شي ء أيضا.

و الحاصل: إن الحاكم القاضي قسمان:

حاكم يقضي بما أنزل اللّه من قسط و حق و بميزان فرقان حكيم.

و قاض يحكم بغير ذلك علي مقاييس الطغاة الخونة الفسّاق الظلمة- خذلهم اللّه- و من حكم بحكمهم فهو أيضا فاسق خئون بل هو كافر ظلوم حسب مراتب حكمه لو لم نقل به في كل حكم لم يوافق ما أنزل اللّه كائنا من كان، فلا بدّ من الكفر به، و من حذا حذوه، و هجرانهم جميعا و تركهم حتي يزولوا عن حياة المجتمع الانساني.

و الأول من القضاة هو الحاكم العادل اللائق للبقاء و للاستناد علي مسند القضاء و متكأ الحكم- كثّر اللّه أمثالهم و أيّدهم بنصره.

و الظاهر ان الاتكاء علي كلمة: بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ بكلّيتها في الآيات المباركة يدلّ علي أن القاضي لا بدّ و أن يكون علي حدّ من الفقه و شعور الحكم يتمكّن به من استخراج الفروع و حكم الحوادث من الأصول الثابتة، و تطبيق الكليات العالية علي المصاديق الدانية الواقعة الذي نعبّر عنه بالاجتهاد، يعني يشترط في القاضي أن يكون فقيها مجتهدا.

كما ان اشتراط العدالة ظاهر بطبعه فان غيره يقع في تفتين الناس و إحرافهم

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 339

سريعا و يميل بهم الميول و الاتجاهات المنحرفة فيحكم بغير ما أنزل اللّه و هو لا يشعر أحيانا

لطول المقدمات في الانحراف، و العدالة في القضاء تمنع عن ذلك كلّه، فيمكن استنباط اشتراط العدالة في القاضي من مفهوم: بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ أيضا، كما لا يبعد وضوحها من قوله تعالي: إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (الحجرات [49] الآية 6).

و اما طيب المولد بعد الغضّ عن التأثيرات العريقة النسبية في التفكير و المستوي الثقافي من ناحية الجراثيم الأصلية المسمّاة ب «الجينات» و التي أثبتتها العلوم الحياتية اليوم باسم الوارثة و أشار إليها بل صرّح بها آيات كثيرة في أبواب شتي و لا سيما المربوطة بهذا الباب «1»، فلعلّه لما نشعر به و نستفيد منه من الحكم بما أنزل اللّه تعالي أيضا و حفظ الحدود الالهية و الحقوق الحقّة، هو أن من كان مولودا من نقض الحكم و محصولا من ابطال الحدّ الالهي و تضييع الحق، كيف يتصدّي لحفظ الحكم الشرعي و ضبط الحق الالهي و إجراء الحدّ مع تنفّر الطباع عمّن لم يطب مولده، و السنّة المباركة بحمد اللّه قد صرّحت بهذا الأمر و بيّنت الشروط فيه بوضوح.

و اشتراط الذكورة في القضاء مستفاد من تناسب الحكم و الموضوع مع التصريح بها في السنّة المباركة، و تفصيل الكلام لهذا الباب مبسوط في رسالتنا:

«أبحاث فقهية» باب القضاء.

______________________________

(1)- من كتاب النكاح لا سيما باب الرضاع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 340

الفصل الثالث: ما يتعلّق بالشهادات

اشارة

من المعلوم أن أول شي ء ينبثق التنازع منه و التخاصم هو الادعاء الذي يدّعيه شخص ما لأمر ما، و الانكار الذي ينكره شخص آخر، فيدّعي أحدهما تحقق شي ء و أحقيّته، و الآخر ينكره، فان أثبت المدّعي فلا شي ء، و إلا فالمنكر ينقلب مدّعيا لخلاف ما ادعاه الأول مع ضعف منكره الذي كان مدّعيا فيثبت أمره بأسهل مما كان

علي الأول إثباته مثل القسم فتنفصل الخصومة و يرتفع التنازع.

نعم ان ما لا يحتاج الي مئونة و تكلّف هو النفي و الانكار، و لكن الاثبات لا بدّ و ان يستند الي دليل و مثبت لأوله، و أقربه شهادة لمن حضر الواقعة و شهدها بعد كونه عادلا، لا يشهد عن زور و لا عن طمع و ميل، و من ذلك يعلم أن القضاء لا ينفكّ عن الشهادة غالبا، فاذا لم يتمكّن المدّعي عن الاشهاد و إراءة المستند أو إثبات ما يدّعيه ينتهي الأمر الي المنكر، و عليه الإشهاد أو اليمين بعد انقلابه الي مدّع خلاف الأول.

و ما ذكرناه أمر عقلائي، كان و لا يزال سائدا في جميع الأمم و الشعوب، و قد أمضي الشارع المقدّس أسسه الكلية و تصرّف في بعض جزئياته نفيا و إثباتا مثل تعدد الشاهد و عدم كفاية المرأة الواحدة في الشهادة، و سوف يبحث كلّه مفصّلا بعد القضاء و الشهادات إن شاء اللّه، و في الفصل آيات:

الشهادة في التجارة و الامانة

الأولي- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِليٰ أَجَلٍ مُسَمًّي فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لٰا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 341

ضَعِيفاً أَوْ لٰا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْريٰ وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا وَ لٰا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِليٰ أَجَلِهِ ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ

اللّٰهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَ أَدْنيٰ أَلّٰا تَرْتٰابُوا إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلّٰا تَكْتُبُوهٰا وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ وَ لٰا يُضَارَّ كٰاتِبٌ وَ لٰا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّٰهُ وَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ* وَ إِنْ كُنْتُمْ عَليٰ سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كٰاتِباً فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمٰانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللّٰهَ رَبَّهُ وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.

(البقرة [2] الآية 282 و 283)

تأمر الآيات الكريمة بتحكيم الأمور في المعاشرات و المعاملات التي لا تخلو عن استقراض و تداين لئلا ينتهي الأمر الي منازعة و مخاصمة، و إذا انتهي إليها كان الأمر في الحل و الفصل أسهل لتحكيمه و إحكامه من قبل ككتابة ما يتفق عليه و ايجاد الشاهد و غير ذلك.

فتأمر الآيات الكريمة بكتابة ما يقع بين الدائن و المدين من ناحية الأجل و العدالة من غير بخس في حق كل منهما و من غير سأم و ملل في كتابة كل صغيرة و كبيرة، فان ذلك أقسط و أقوم للعدل و الشهادة، و ليكن إملاء الكتابة علي الذي عليه الحق تحفّظا عليه كيف ما يشاء لسدّ ثغوره، و ان لم يستطع فليملل وليّه بالعدل، و أما إن لم يوجد كاتب أصلا فليس لهما التسامح في التداين و التعامل بل عليهما رهان مقبوضة، إلّا أن يأمن كل واحد بالآخر، فليؤدّ الذي ائتمن أمانته و ليتق اللّه ربه.

و بعد ذلك كلّه فليستشهدوا علي أمرهما هذا شهيدين من الرجال أو رجلا واحدا و امرأتين أو أربعة منهنّ فقط من العدول،

أن تضلّ إحداهنّ فتذكّرها الأخري، و لا كفاية في غيرهم من الشهود، كما لا تكفي شهادة امرأة واحدة عوضا عن شهادة

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 342

رجل واحد، بل لا بدّ من شهادة امرأتين بدل شهادة رجل واحد أو أربعة بدل رجلين.

كل ذلك جار و ماض في التبايع و التداين اذا كان ذا أجل و مدة، أما اذا كانت تجارة حاضرة تدار من قبل أفراد فليس عليهم جناح أن لا يكتبوها و لا يستشهدوا عليها فان الحضور و الدوران يقطعان الأمر.

ثم ان الآيات الكريمة- كما عرفتها- لا تستند إلا علي أمر واحد و هو تحكيم الأمور في المعاملات علي وجه تقلّ فيه المنازعات و تحلّ فيه الخصومات، و كل ذلك بأمور عقلية أرشد إليها الشارع المقدّس مع تصرّف في بعضها مثل الشاهد.

و عليه فاستفادة إباحة الاستدانة أولا، و التأجيل فيه ثانيا، و وجوب كون الأجل مضبوطا ثالثا، الي آخر ما عدّه صاحب الكنز و الزبدة «1» (رضوان اللّه عليهما) مما كان معمولا لدي العقلاء بما هم عليه مما لا يخفي، و الآيات الكريمة تشمل أوامر و نواه، و لو ان كلها ارشادي يرجع الي أمر واحد، فلا يبقي مجال للبحث عن الوجوب و الاستحباب فيها لعدم التشريع و التأسيس رأسا و انما هو ردع لا غير.

تستحق الآية هنا مزيدا من الشرح حول إضرار الكاتب أو الشاهد أو كلاهما و التحذير من ذلك.

الشهادة في الطلاق

الثانية- قوله تعالي:

فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. (الطلاق [65] الآية 2)

الآية الكريمة بصراحتها تأمر بإشهاد

ذوي عدل حين التفريق و تسريح الزوج زوجته لما ذكرنا من التحفّظ علي الأمر نفسه و دفع الإنكار و النسيات أو الموت أو غير

______________________________

(1)- كنز العرفان/ ص 46 ج 2، الزبدة/ ص 441.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 343

ذلك مما ينبعث عنه الاختلاف و الخصومة، و الأمر- و لا سيما في هذا المورد- يدلّ علي الوجوب بحيث لا يقع بدونه و لا يصح، و ذلك لأهمية الموضوع، فان ذلك تعاهد للمعيشة و الحياة الانسانية و تعاهد للأسرة، و في النهاية تعاهد للمجتمع الذي لا ينفصل بشي ء من الوهم و الخيال و لا يتّصل أيضا، كما فصّلناه في كتاب التسريح، و كلّما كان الأمر أهم كان الإشهاد عليه ألزم، و لذلك لا بأس بتركه في بعض المعاملات الجزئية مع صراحة الأمر به فيما عرفت من الآية المباركة السابقة.

ثم إنّ في المقام أمرا مهما بل أهم قد أشير إليه، و هو تكليف من شهد الواقعة و حضرها من وجوب اداء الشهادة بعد التحمّل حال الافتقار، و أنّه لا بدّ و أن يكون أداؤه للّه تعالي لا لمن له الحق أو عليه خوفا من قهره، أو ترحّما لضعفه، فان من يؤمن باللّه و اليوم الآخر لم يستتر عن الحق و لم يقض عليه، و ان اللّه علي كل شي ء شهيد و هو خير الحاكمين، و من يتّق اللّه يعلم ان اللّه تعالي سيجعل له مخرجا، و أنّه هُوَ الرَّزّٰاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، فلا يكتم الشهادة و لا يؤدّيها بغير حق طمعا في مال أو استرزاقا من غير اللّه تعالي، و هو يعلم انّه تعالي يرزقه من حيث لا يحتسب، و كذلك من يعلم ان اللّه تعالي هو البارئ الخالق

المصوّر و بيده كل شي ء، و كل شي ء عنده بمقدار، لا يكتم الشهادة و لا يؤديها بغير حق، بل يتوكّل علي اللّه تعالي فهو حسبه، إِنَّ اللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً، و يتّعظ بذلك خير الوعظ، و عليه فلا بدّ من الاشهاد. و يجب علي الشاهد أداء شهادته للّه تعالي بالحق و يحرّم الكتمان، و بغير ذلك لا أنه ترك واجبا فقط بل انه فعل حراما أيضا في كتمانه هذا ما دام كاتما لوجود الأمر و النهي معا في الاعتبار دون اتخاذ أحدهما من دون الآخر حتي يلاحظ المتخذ عنه فقط.

ثم ان السرّ في شدّة الاهتمام ظاهر، فان الشهادة- كما عرفت- هي التي تنفصل بها الخصومة و يحكم بحسبها الحاكم غالبا، فبها ينقلب الحق باطلا أو الباطل حقا، أو يظهر الأمر كما هو، فكأن الشاهد هو الذي يضلّ الحاكم عن الحق أو يهديه

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 344

إليه، فالأمر خطير جدا، و التكليف ثقيل لو لم نقل بأنه أخطر، فان الحاكم يقضي علي البيّنة و اليمين، و لذلك نري الآيات الكريمة تعبّر عن كتمان الشهادة بأشدّ تعبير و لا سيما في قوله تعالي:

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللّٰهِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ.

(البقرة [2] الآية 140)

فان لسان الآية الكريمة- كما تراه- يفيد الاستفهام علي نحو آكد أن من كتم عن اللّه تعالي و عن حاكم الحق ما عنده من الشهادة بأن حضر الأمر و شاهده ثم لم يؤدها و ما تحمّله لدي الافتقار إليه سواء أنّه لم يؤد شيئا منه أصلا، أو انّه أداه علي خلاف الحق، فهو أظلم من كل ظالم، لأنه قد هدم بظلمه هذا

مكانة و اعتبار حافظ حقوق المجتمع المنظّمة المعتدلة التي هي أقوي أركانه، لا أنه ظلم بنفسه شخصا معيّنا في واقعة فقط، و قد اشتري بذلك غضب اللّه تعالي و عذابه، و ما اللّه بغافل عمّا يعمل الظالمون، فكما انّ الشهادة بالحق واجبة، فكذلك كتمان الحق حرام.

الشهادة لإقامة العدل

الثالثة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَليٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْليٰ بِهِمٰا فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَويٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. (النساء [4] الآية 135)

تخاطب الآية المباركة المؤمنين و تأمرهم باقامة القسط في مجتمعهم علي الاطلاق في مختلف شئونهم الحياتية التي منها المحاكم القضائية فلا بدّ لذلك من إقامة الشهود للّه تعالي و بالحق، و لو كان علي أنفسهم أو علي والديهم أو الأقربين منهم، فليس له مراعاة نفسه أو أقربائه بطبقاتهم فيشهد لهم علي خلاف الحق و العدل من غير فرق في ذلك بين أن يكونوا فقراء أو أغنياء، و المتّبع هنا هو العدل

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 345

و الحق لا الميل و الهوي، فان اللّه تعالي خبير بما تعملون في اداء الشهادة بالحق أو الإعراض عنه و إن تلووا أو تعرضوا فان اللّه كان بما تعملون خبيرا.

و قد استدلّ بالآية الكريمة علي جواز شهادة الولد علي الوالد كما له ذلك قبال عدم الجواز لولاية الأب، و ان الولد و ما له للوالد ولاية، و المتّبع هنا هو إطلاق القرآن بعد صراحته في اشتراط عدالة الحاكم و لا ينافي ولاية الأب، و احترام الابن له لزوم الاحسان إليه، فان الاحسان في الآيات راجع الي الروابط المتعارفة

دون الحقوق و الأحكام الشرعية و قد فصّلنا الكلام في مقامه «1».

الرابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَليٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْويٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ.

(المائدة [5] الآية 8)

الآية المباركة كسابقتها تخاطب المؤمنين و تأمرهم أن يكونوا قوّامين للّه بأن يملأ اللّه تعالي حياتهم الفردية و الاجتماعية بمظاهره و شعائره حتي يتجلّي الحق و القسط في بيوتهم و طرقهم و شوارعهم و معاملهم و متاجرهم و منظماتهم العامة و الخاصة، فاذا كانوا كذلك، كان الحق قائما بينهم، و كانوا هم قوّامين له و يصحّ أن يطلق علي بلادهم بأنها بلاد المسلمين، علي خلاف ما هو الظاهر في زماننا من أكثر تلك البلاد و عواصمها، حيث ان الاسلام قد انزوي و انحصرت أعمال المسلمين في المساجد و المعابد فقط و حبست بين جردانها، و المسلم مسلم ما دام فيها، فاذا خرج عنها فهو في بلده و معبره و متجره و معمله كبلاد الكفر في معابرهم و منازلهم و معاملهم، لا في مزاياها و محسّناتها فحسب بل في أكثر الجهات، صانها اللّه عن شرور الكفار و حيل الأجانب.

______________________________

(1)- في كتاب المجتمع و الآداب، و في كتاب (الجهاد) باب اشتراط إذن الوالدين من (رسائل فقهية)/ ص 46.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 346

و يتمكّن من استظهار وضع المحاكم و قضاتها الحاكمين علي المسلمين اللاعبين بالاسلام و أحكامه- خذلهم اللّه و قطع أيديهم و أيدي من سلّطهم علي رقاب المسلمين إن شاء اللّه- فهؤلاء القضاة الطغاة يقضون وفق أسس الغربيين أو القواعد التي تحكم بقهر المظلومين المستضعفين و لا سيما الذي عاصرناه في بلادنا

و عشناه في جميع شئوننا من حكم البهلوي و استبداده و أعوانه السافاك حفاظا علي السلطة الجائرة.

و المطلوب في المجتمع الاسلامي اضافة الي تربيته الفرد و تأديبه، تربية المجتمع الانساني و المجتمعات الاخري أيضا و تأديبهم بأن تكون الظواهر كلّها اسلامية سواء كانت في البيوت و الأسواق و المعامل أو المعابد و علي الصورة الشرعية حتي يستجلب المحيط و المجتمع الاسلامي كل فرد إليه و يذيبه في صبغة الاسلام و ضوء القرآن.

و من ذلك يأمرهم تعالي باقامة العدل و الشهادة بالقسط في مختلف شئون الحياة، و في المحاكم لدي فصل الخصومات بطريق أولي و مصداق أجلي بلا تأثّر بشنآن قوم، فيميلوا عن الحق و يجرموا، و العدل أقرب للتقوي و اتقوا اللّه إن اللّه خبير بما تعملون في أيّ مقام، و في الشهادة بالعدل أيضا.

أهميّة الشهادة

الخامسة- قوله تعالي:

… وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهٰادٰاتِهِمْ قٰائِمُونَ. (المعارج [70] الآية 33)

الآية الكريمة- كما تراها- في سياق عدّ عوامل النجاح في الدنيا و الفلاح في الآخرة، فجعل إقامة الشهادة بعدم كتمانها و أدائها بالحق رديف الدوام علي الصلاة و اداء الزكاة و صيانة الشهوات و رعاية العهود و الأمانات التي هي من مهام أركان الأحكام و العبادات؛ و ليس ذلك إلا لأهمية موقف الشهادات في المحاكم و لدي

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 347

فصل الخصومات، فان قيامها بالحق و العدل يورث الاطمئنان لكلّ أحد و يوجب هناءة المعيشة و الصفاء و الراحة في الدنيا و الآخرة، وفّقنا اللّه تعالي لإقامة الحق و العدل في خير أمّة إن شاء اللّه.

الشهادة عند ردّ الأموال

السادسة- قوله تعالي:

… فَإِذٰا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفيٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً.

(النساء [4] الآية 6)

الآية الكريمة في مقام بيان ولاية الأب و الجد «1» و ان السفهاء لا تردّ إليهم الأموال، بل لا بدّ من إرزاقهم و إكسائهم و القول معهم بالمعروف المتعارف، و كذلك الأيتام لا يؤتون أموالهم، حتي اذا بلغوا النكاح و استؤنس منهم الرشد، فيجوز عندئذ دفع أموالهم إليهم و لا بدّ من الإشهاد علي الدفع تحكيما للأمر و دفعا للخلاف و تسهيلا للحل اذا ظهر عن عمد أو خطأ أو نسيان أو غير ذلك.

الشهادة عند الوصيّة

السابعة- قوله تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبيٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ* فَإِنْ عُثِرَ عَليٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقّٰا إِثْماً فَآخَرٰانِ يَقُومٰانِ مَقٰامَهُمٰا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيٰانِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ لَشَهٰادَتُنٰا أَحَقُّ مِنْ شَهٰادَتِهِمٰا وَ مَا اعْتَدَيْنٰا إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الظّٰالِمِينَ. (المائدة [5] الآية 106 و 107)

______________________________

(1)- كما مرّ في كتاب: «الولاية و الحكومة» ج 2/ 21.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 348

توجب الآية الكريمة الإشهاد علي من أراد الوصية بعادلين من معارفه إذا كان حضور الموت و الوصية بين الأقرباء و في الوطن حيث يعرف كل واحد منهم الآخر بحدوده، و أما إن أنتم ضربتم في الأرض و كنتم علي سفر فالإشهاد يكون بعادلين أيضا و لو من غير المعارف إذا حضركم الموت و أصبتم بمصيبته و عند الحاجة أيضا، و شهادة الشاهدين معتبرة

إن لم يكن بهما ريب، و إن ارتبتم في صدقهما لعدم المعرفة بحالهما كما هو حقه تحبسونهما و توقفونهما بعد الصلاة فيقسمان باللّه علي انّا لا نكتم شهادة اللّه و هو علي كل شي ء شهيد و لا نشتري به ثمنا لا قليلا و لا كثيرا، سواء كان من ذي قرابة أو غيره، و لو كنّا ممن كتم شهادة اللّه أو اشتري بها ثمنا، لكنّا إذا من الآثمين المستحقين للعذاب، فان أقسما بذلك، و ما عثر علي كذبهما، فهو حقّ، و يتم به الأمر، و إلا فان عثر علي كذبهما فعلي الآخرين اللذين كانت الشهادة عليهما من الذين استحق عليهم الأوليان من صاحبي الحق القسم فيقومان مقامهما و يقسمان باللّه إنّ شهادتنا أحق من شهادتهما و ما اعتدينا، و لو لم يكن كذلك لكنّا من الظالمين.

فان أقسما بعد شهادتهما يعمل بها، و ذلك أدني و أقرب الي المحافظة علي الحق و الواقع، و تحقق الشهادة علي وجهها، و عدم ردّ الايمان الي غير مورده فانه مع عدم الشهادة علي المنكر اليمين و ردّه علي المدّعي، و معها علي الوجه المذكور لا ردّ للايمان إلا الي محلّها، فاتقوا اللّه تعالي في الشهادة و اليمين لئلا تميلوا عن الحق و العدل الي الباطل و الخلاف، و اسمعوا ما وعظكم اللّه به و اعلموا ان اللّه لا يهدي الفاسقين باقتراف الذنب.

و كيف كان فلا إشكال في دلالة الآية المباركة علي لزوم الإشهاد و تحكيم الأمور به، و كلّما كان الأمر أهم كان الاهتمام به أشدّ، و منها الوصية.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 349

مراجعة الظالمين لاستنقاذ الحق

اشارة

مسائل ثلاث:

الأولي:

بعد ما عرفنا أن وجود المحاكم العادلة ضرورة حفظا لحقوق الناس و تحكيما للعدالة الاجتماعية

في ضوء الحكومة الاسلامية الحقّة حتي لا تكون فتنة في الأرض و يكون الدين كلّه للّه، فان كانت الحكومة الاسلامية متحققة، و الحاكم شرعيا عادلا فبها و نعمت، و إلا فلا يجوز الرجوع الي حكّام الجور و قضاة الظلم و قد أمرنا أن نكفر بهم.

نعم قد ورد عن الأصحاب الجواز بذلك عند ما يتوقّف استنقاذ الحق عليه مطلقا، و في الاطلاق لدينا كلام، فان تجويز التحاكم لديهم علي الاطلاق تحكيم لأركان عروشهم و تقوية لمباني محاكمهم الجائرة، فان رجوع الناس إليهم هو علّة لبقائهم، و تردد الناس إليهم و الاكتفاء بهم هو دعم في دوام أساسهم، من غير تأثّر بهم لكون الاعتقاد بهم أنهم ظلمة يجب إزالتهم عن المجتمع الاسلامي اللازم، فان الناس إذا رأوا كفايتهم في استيفاء حقوقهم، و تجويز الفقهاء العظام (رضوان اللّه تعالي عليهم) لهم بذلك، و انه لا ملجأ لهم غيرهم، فلا داعي في مخالفتهم لهم، و لا يقدح في تصوّراتهم لزوم الحفاظ علي المحاكم الشرعية بل في ايجادها، اذا لم تكن كما في زماننا «1»، فكيف بمكافحتهم الي أن يزول الكفر و الظلم و ينقطع شرّهم عن الناس، و يجزم بانقطاعهم عن سائر غصون شجرتهم الملعونة متدرجا و هم ظالمون قاهرون، و مخالبهم ناشبة في عروق المجتمع الاسلامي باسم الاسلام و الدين، خذلهم اللّه جميعا.

فالحق ان مراجعات الناس لهم هي التي توجب بقاءهم و نفوذهم في المجتمع الاسلامي، و لو حال فقدان طريق آخر، و هي لا تجوز قطعا، سواء كان ذلك من ناحية

______________________________

(1)- أي قبل قيام الجمهورية الاسلامية المباركة، أو في غيرها من بقاع الأرض.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 350

المراجعين كرجال متّبعين في قومهم و مثل للمؤمنين و هم

أسوة حسنة فيهم، الذين يقتدي بهم غيرهم و يستظهرون من مراجعتهم قبولهم في مقامهم متمسّكين بأعذار، سواء كان مورد الخصومة ما يعتني به من القيمة أو لا، أو من ناحية الأمر الذي تخاصموا فيه، كان المراجع من كان و من أيّ طبقة و صنف، كما في الأمور الاجتماعية الراجعة الي المكاسب و المعامل أيضا.

و الحاصل: ان المسألة تبتني علي تعارض المهم مع الأهم، لا بدّ من ملاحظتهما و انتخاب الأقل مفسدة من تقوية الحق أو تقوية الظالم.

نعم لا بأس برجوع من لا تأثير لرجوعه إليهم في تحكيمهم ممّن لا يقتدي به في المجتمع و لا يقاس بعمله شي ء، أو ممّن لا يبالي بشي ء و هو معروف بذلك، كان الحق فيه ما كان، و الغرض توقّف استنقاذه عليه.

و ما ذكرناه هو مقتضي الجمع بين تأكيد الآيات الشريفة في اختصاص حق حكومة اللّه تعالي و رسوله و الأئمة (عليهم السّلام) و المنصوبين من قبلهم و حرمة التحاكم الي الطاغوت مع سرّ ضرورة وجود المحاكم و حكمة وجوب القضاء كفاية كما لا يخفي، و لذلك لا يختصّ ما ذكرناه بالقضاء بل في مشابهاته أيضا كالصلاة و سائر التصرّفات في الأراضي الموزّعة بين الفلّاحين بيد الحكومة الجائرة من غير رضا المالك، لمن يجوز له بشخصه لولايته أو إجازته من الوليّ فانه لا يجوز له ذلك، اذا انتزع من عمله الملكية و صحة عمل الجائر، إلّا أن يصرّح بوجه الجواز لشخصه و بقاء الملك علي مالكه الأول، و لعلّ منه قبول بعض الخطباء و المبلّغين تعهّد المنظّمات الدولية عدم تدخلهم في بعض المسائل، مع أنها هي الأساس الاسلامي اللازم بيانه كالحجاب و الطلاق و حقوق الزوج و الزوجة من البدع

المحدثة، بل و من الباب السكوت المطلق قبال أعمالهم الجائرة مثل هجومهم الوحشي علي المدرسة الفيضية العلمية و ضرب و نهب و جرح و قتل طلّاب العلوم الدينية مرارا- لعنهم اللّه- فانه قد يستظهر من ذلك القبول و من ذلك السكوت إمضاء الباطل و قس عليهما مسائل اخري،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 351

حفظنا اللّه من شرور أنفسنا و لا سيما ممّا يسوّل لنا الشيطان و يؤول لنا فيقوي بنا الظالم الجائر، اللّهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق باذنك و احفظنا من شرور انفسنا.

حرمة الرشوة

الثانية:

لا إشكال في حرمة الرشوة مطلقا- كما سيأتي بيانه في كتاب المحرّمات إن شاء اللّه و لا سيما حرمتها علي القاضي و الشاهد و المتحاكمين.

قال تعالي:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَي الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

تنهي الآية الكريمة عن التوسّل بالحكّام و التدلّي إليهم بالأموال ليحكموا لصالح صاحب المال فيأكل فريقا من أموال خصمه من الناس بالقضاء الباطل و الإثم فان ذلك أكل للمال بالباطل، و ما ينفق في سبيل الباطل باطل، و الآخذ و المعطي بل الرابط بينهما و الكاتب لهما شركاء في الإثم كما في السنّة المباركة: «الراشي و المرتشي كلاهما في النار» و تمام الكلام و تفصيله في كتاب المحرّمات مذكور.

الدعوة الي الصلح

الثالثة:

الصلح الجاري في جميع الحقوق و الأموال المتنازع عليها بين الأفراد أو الأقوام و الملل، و كما ان ماهيّته لا تتحقق إلا بقرار و تسالم مضبوط بعقد أو توافق مضمون بلفظ أو كتابة، و هو بطبعه حسن يستحسنه كل انسان و يستسيغه كل عاقل في مختلف موارد الاختلاف، فان إرجاع الأمر الي طبعه الأصلي الصالح لئلا يفسد بتمامه، و هو الاصلاح الحاصل منه الصلح، مطبوع لدي العقلاء، مستحسن عندهم،

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 352

و لذلك يستحب للقاضي أيضا دعوة المتخاصمين الي الصلح أولا قبل قضائه، و قد رغّب إليه الشرع المقدّس أيضا إلّا في موارد خاصة و التي لا يقبلها طبع المتنازع فيه، و لا يستحسنه العقلاء أيضا، كما في الجهاد حال اشتعال نائرة الحرب و ظهور علائم الفتح للحق و النصر و انهزام الخصم الباطل، فانه لا يتوسّل الي الصلح إلّا الضعيف دفعا لسقوطه و انعدامه، و لا يقبله القوي الفائق

فانه تضعيف للحق و خذلان لأهله و هو حرام، كما يجوز ذلك إذا كان تركه ضررا للحق و تضعيفا لا ينجبر بموازين عقلائية، قال تعالي:

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَي اللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّٰهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ.

(الانفال [8] الآية 61 و 62)

فكما يجوز التجنيح و التواضع للسلم عند المصلحة، كذلك لا يجوز عند إرادة العدو الخدعة للاسلام و المسلمين، بل لا بدّ من التعقيب و الإدانة، فان اللّه تعالي هو الكافل الكافي و المؤيّد بنصره المؤمنين المجاهدين.

و كما في الزوجين عند مخافتهما في أن لا يقيما حدود اللّه تعالي فالصلح بينهما مرغوب عنه، كما سيأتي بيانه في كتاب النكاح إن شاء اللّه تعالي.

و في غير هذه الموارد فان الصلح حسن علي الاطلاق يختلف حسنه حسب متعلّقه و مورده، و في المقام آيات:

الأولي- قوله تعالي:

وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَي الْأُخْريٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. (الحجرات [49] الآية 9 و 10)

الآية الكريمة- بصورة الكبري كليا بعد ذكر قسم من موارد الاختلاف- تأمر

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 353

بالإصلاح بين المؤمنين مهما أمكن لدي اختلافهم بعضهم مع بعض أو مع طائفة أو طائفتين و لا سيما اذا انتهي اختلافهم الي القتال و الحرب، فان لزوم الاصلاح و وجوبه علي حدّ لا بدّ من مقاتلة الباغي منهما حَتّٰي تَفِي ءَ إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ، و بعد ذلك لا بدّ من الاصلاح بينهما بالعدل و

القسط و رعاية حدود اللّه تعالي و حقوقه في الطرفين فان المؤمنين إخوة بعضهم أولياء بعض.

و كيف كان فلا إشكال في دلالة الآية الكريمة علي مطلوبية طبيعة الاصلاح الحاصل منه الصلح بمعني الأعم، و مقتضي كلية الكبري وجوب ذلك في جميع الموارد فان الاختلاف بطبعه الموجب لبقاء الضغائن و التعاند و الفساد مبغوض ممقوت و لو كان المتخلّف فيه حقيرا.

الثانية- قوله تعالي:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. (الأنفال [8] الآية 1)

الآية الكريمة، و ان كانت في مورد بيان الأنفال و اختلافهم في حكم اللّه تعالي حسب توقّعهم و انتظارهم في تقسيمها بأجمعها بينهم، إلّا أن الأمر بالاصلاح و توافق الجميع علي ما هو حكم اللّه تعالي واقعا من أنها للّه و لرسوله، و إطاعة الجميع للّه تعالي و رسوله في الحكم و الموضوع و الاتقاء عن محارمه بالتصرّف فيها علي غير وجهها، كل ذلك يدلّ بوضوح علي أصل مطلوبية الصلح، مع إفادة أمر زائد، و هو أن الاصلاح و التوافق لا بدّ و أن يكون في نطاق دائرة أحكام اللّه تعالي و موضوعاته المشروعة بحسب الانطباق من غير تحليل حرام أو تحريم حلال أو تغيير موضوع عن موضعه، فالصلح جائز إلّا ما حرّم حلالا أو أحلّ حراما كما في السنّة المباركة، و طبع الأمر يقتضي ذلك، فان الإصلاح بين المؤمنين هو إرجاعهم الي ما هو الأصل في طبع المؤمن بما هو مؤمن في المورد المختلف فيه، فلا ينقلب به ما هو عليه لو لا الاختلاف من الحكم أو الموضوع.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 354

الثالثة- قوله تعالي:

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خٰافَتْ

مِنْ بَعْلِهٰا نُشُوزاً أَوْ إِعْرٰاضاً فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يُصْلِحٰا بَيْنَهُمٰا صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. (النساء [4] الآية 128)

لا إشكال في دلالة الآية الكريمة علي أن الصلح بطبعه خير و حسن و لا سيما في أمور الاسرة و ما يطرأ بين الزوجين من أمور خلافية ينشأ منها النفور و النشوز من أحدهما علي الآخر، فان ترك ذلك ينتهي الي ما لا يحمد عقباه و ما لا ينجبر أحيانا مما يؤدي الي انفصالهما و تشتت العائلة و ضياع الأولاد، و الابتلاء بما لا ينبغي لإنسان ما، فكيف لمسلم!! و كثيرا ما كان أسّ الأمر الموجب للنفار غير خطير، فالصلح في مثل هذه الموارد أكثر خيرا و أحفظ لمصالح الأسرة و المجتمع معا، و تمام الكلام و تفصيله مذكور في كتاب النكاح.

الرابعة- قوله تعالي:

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً خَبِيراً. (النساء [4] الآية 35)

الآية المباركة في سياق العناية بالأسرة و العائلة أيضا، حيث هي أساس المجتمع و لبنته، و تحثّ علي لزوم رعاية مصالحها و دفع الاختلافات الحاصلة فيها، المنتهية الي الفساد و الانحطاط، فتأمر الآية المباركة- مخافة وقوع ذلك- بأن يختار كل منهما حكما ينوب عنه، و اللّه تعالي هو الموفّق بينهما و هو المعين علي حصول الصلاح و تحققه إن أرادا ذلك، فعليكم الإقدام للاصلاح بوجه أصلح حتي اختيار الحكم من كل منهما و حتي التوفيق بينهما، و لا تيأسوا من روح اللّه …

فالآية الكريمة تدلّ بوضوح علي مطلوبيّة الصلح و لزومه حسب

الموارد الكافية.

الخامسة- قوله تعالي:

لٰا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوٰاهُمْ إِلّٰا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلٰاحٍ بَيْنَ

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 355

النّٰاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.

(النساء [4] الآية 114)

تنهي الآية الكريمة- بلسان النفي- عن النجوي و المكالمة مع مخاطب معيّن في حضور الآخرين منفصلا به عنهم بحيث لا يسمعون قوله، فيتوهّم كل من حضر بوهم، فيتأذون، فان ذلك من عمل الشيطان قد نهي عنه و هو مذموم حرام حسب الظاهر، ثم استثنت الآية الكريمة منه موارد الخير و الصلاح، فلا خير في كثير من نجواهم إلّا فيما اذا أمر بصدقة أو إعانة الفقراء و الضعفاء، و لم يكن في ذكر ذلك شفاها و بمسمع الآخرين مصلحة و لا فائدة لمورد الصدقة أو الفقير أو الغني المخاطب، و كذلك من موارد الخير في النجوي اذا كان النجوي لمعروف و خير و صلاح يأمر به المناجي و لا يصلح الإعلان به لوجه، و مثل ذلك اذا أراد الاصلاح بين الناس فيما اختلفوا فيه، و بالنجوي و التكلّم خفاء بمحضر الآخرين يحصل التوفيق بينهما علي الفرض و بالتسويف الي ملاقاة المخاطب خصوصيا لا في جمع تفوت الفرصة و لا سيما اذا كان ذلك ابتغاء لمرضاة اللّه تعالي دون رئاء الناس.

و حيث ان قبح النجوي و حرمته لا يكون ذاتيا بل للايذاء و تحقير الآخرين و أشباه ذلك فاذا كان في البين مصلحة أقوي فلا بأس به تكليفيا مع بقاء الوضع كما هو الظاهر من مسألة اجتماع الأمر و النهي في مصداق واحد، و الآية الكريمة تدلّ علي أن مصلحة الصلح علي حد تغلب المفسدة في النجوي.

قال تعالي:

يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلٰا تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْويٰ وَ اتَّقُوا اللّٰهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (المجادلة [58] الآية 9)، و سيأتي الكلام عنه في كتاب (المجتمع و آدابه) إن شاء اللّه.

و حاصل الآيات الخمس: انّ الصلح خير و حسن، لازم في مختلف مستويات المجتمع الاسلامي من الأمور العادية في العوائل و الأسر، و لازم أيضا في موارد

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 356

الاختلاف في المعاملات و المكاسب حتي المنازعات الحاصلة بين الطوائف لاختلاف الأفكار و المفاهيم أو بغي بعض علي بعض، فلا بدّ من الاصلاح بينهم ما لم يلزم تغيير حكم من أحكام اللّه أو حدّ من حدوده حتي انّه لا بدّ من مقاتلة الباغي ليفي ء إِليٰ أَمْرِ اللّٰهِ، و ترك الصلح اذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود اللّه، فالصلح جائز نافذ ما لم يحرّم حلالا أو يحلّ حراما.

و لا يتوهّم من ظاهر قوله تعالي:

فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلٰا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (البقرة [2] الآية 182) انه يجوز تبديل الوصية و التصرّف فيها بعنوان الاصلاح فهو حرام بدونه و ليس كذلك، فان المراد من الإصلاح بين الورثة في الوصية هو تراضيهم علي الحق و انفصالهم عن الباطل و لو بتصرّف كل منهم في سهم الآخر برضاه، و سيأتي تفصيل الكلام عنه في كتاب الوصية إن شاء اللّه.

خاتمة المطاف

نتيجة المقدّمة:

لا إشكال في ضرورة وجود المحاكم و وجوب القضاء كفاية كوجوب أصل الحكومة و الولاية العامة أي زعامة و قيادة الأمة، و في الفصل فروع:

الأول: يجب الحكم بالعدل و بما أنزل اللّه تعالي، و هو أصدق مصاديق العدل، و يحرم الحكم بخلافه فانه

فسق و ظلم و كفر.

الثاني: يجوز للحاكم الاسلامي أن يحكم بين أهل الكتاب بكتابهم علي القسط و العدل و بالاسلام كذلك.

الثالث: لا بدّ للحاكم أن يتحرّز عن افتتان الناس حتي لا يشتبه عليه الأمر فيحكم بغير الحق و هو لا يعلم.

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 357

الرابع: يجب علي الناس أن يوكلوا و يرجعوا حلّ مخاصماتهم الي اللّه و رسوله و إطاعتهما فيما أمرا به و في خصوص القضاء و فصل الخصومات فيما بينهم عن رضي و طيب نفس سواء كان لهم أو عليهم ليكونوا مؤمنين.

الخامس: يشترط في القاضي أن يكون فقيها مقتدرا علي استنباط الحكم بما أنزل اللّه من الكتاب و السنّة كما يشترط فيه العدالة و طيب المولد.

و في الفصل الثاني فروع:

الأول: ينبغي تحكيم كل عقد أو إيقاع بل كل قرار بين طرفين بكتابته و ختمه و الاستشهاد عليه حتي يسهل الفصل و الحل عند بروز خلاف بموت أو سهو أو نسيان أو غيرهما، و لا سيما في مهام الأمور كطروء الموت، بل يجب ذلك شرعا في بعضها مثل الطلاق و الوصيّة، بحيث لا يتمّ الأول بدون شاهد و لا يثبت الثاني بدونه و لا بدون الكتابة أيضا، فلا بدّ من أحدهما.

الثاني: ينبغي عند إرادة الكتابة أن يملل صاحب الحق بأيّ وجه شاء فان ذلك أقرب الي حفظ الحق و سهولة الفصل لدي الخصومة الطارئة فيما بعد.

الثالث: يجب علي الشاهد تحمّل الشهادة لدي الاستشهاد كفاية فيجب عليه أداؤها كما تحمّلها عينا كذلك فيحرم عليه الكتمان بتركها أو أدائها لا علي وجهها المطلوب.

الرابع: الإشهاد لا بدّ و أن يكون بواسطة رجلين عادلين أو رجل و امرأتين أو أربع نساء عادلات في موارد خاصة.

الخامس: يجب علي

الشاهد أن يري الحق بعينيه و يجمع شعوره و يعلم بأن اللّه تعالي علي كل شي ء شهيد، فلا يتّبع الهوي فيعدل عن الحق أو يراعي جانب أحد بالقدرة أو القوة أو القرابة، بل عليه أن يشهد بالحق و العدل فان اللّه بما تعملون خبير.

السادس: إن شك في شهادة الشهود في الوصية، فيقسمان باللّه، و إلّا فآخران

فقه القرآن (لليزدي)، ج 2، ص: 358

غيرهما يشهدان مقامهما و يقسمان باللّه إنّ شهادتنا أحقّ من شهادتهما، و ما اعتدينا إنّا إذا لمن الظالمين.

السابع: يحرم التحاكم الي قضاة الجور إلّا اذا توقّف عليه استنقاذ الحق ما لم يكن تأييدا لظلمهم، أو تحكيما لمقامهم الجائر، و إلّا فلا يجوز أيضا. و إن فات الحق، إلّا أن يكون حقّا أهم من تأييد الظالم، و أيّ حق كذلك؟!

الثامن: تحرم الرشوة و التدلّي الي الحكّام الطغاة لأكل أموال الناس بالباطل أو لاستنقاذ الحق، و كلية قاعدة الأهم في مقامه من غير تحليل.

التاسع: الصلح خير جائز في كل الأمور ما لم يحرّم حلالا أو يحلل حراما أو يوجب ضررا أكثر، كما في الحرب بعد ظهور آثار الفتح و النصر و انهزام الخصم أو في الزوجين لا يقيما حدود اللّه، و في الأمور الأسرية العائلية أرجح و ألزم.

العاشر: لا بأس بالنجوي عند إرادة الصلح.

الحادي عشر: لا بأس بالإصلاح بين الورثة عند خوف الجنف أي ميل الانحراف في الحكم، و الحكم بتراضيهم في التصرّفات.

و بتمام كتاب القضاء و الشهادات تمّ الجزء الثاني من الجهد حسب التجزئة الراجحة عندنا، و يتلوه الجزء الثالث في كتاب النكاح إن شاء اللّه.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.